فصل: تفسير الآيات (70- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (70- 73):

{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)}
ولما ذكر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما آتاه من غرائز الشرف في سن النكس لغيره، ذكر علة ذلك فقال: {لينذر} أي الرسول صلى الله عليه وسلم بدليل ما دل عليه السياق من التقدير، ويؤيده لفت الكلام في قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم.
ولما كان هذا القرآن مبيناً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متخلقاً به، فهو مظهره وصورة وسورته، فكان حاله مقتضياً لئلا يتخلف عن الإيمان حيّ، قال مظهراً لما كان حقه في بادي الرأي الإضمار إفادة للتعميم مبيناً لأن حكمه سبحانه منع من ذلك، فانقسم المنذورن إلى قسمين: {من كان} كوناً متمكناً {حياً} أي حياة كاملة معنوية تكون سبباً للحياة الدائمة، فإنه لا يتوقف حينئذ عن الإيمان به خوفاً مما يخوف به من الأمور التي لا يتوجه إليها ريب بوجه، فيرجى له الخير، فهو مؤمن في الحقيقة وإن ظهر عليه في أول أمره خلاف ذلك، وأفرد الضمير هنا على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء، وجمع في الثاني على المعنى إعلاماً بكثرة الأشقياء {ويحق} أي يجب ويثبت {القول} أي بالعذاب {على الكافرين} أي العريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء، فالآية من الاحتباك: حذف الإيمان أولاً لما دل عليه من ضده ثانياً، وحذف الموت ثانياً لما دل عليه من ضده أولاً، فتحقق بهذا أن أعظم منافاة القرآن للشعر وكذا السجع من أجل أنه جد كله، فمحط أساليبه بالقصد الأول المعاني والألفاظ تابعة، والشاعر والساجع محط نظرهما بالقصد الأول الروي والقافية والفاصلة حتى أن ذلك ليؤدي إلى ركة المعنى والكلام بغير الواقع ولا بد، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه وحاله معروف في البلاغة والتفنن في أساليب الكلام وصدق اللهجة وحسن الإسلام في غزوة الغابة وكان أميرها سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه:
أسر أولاد اللقيطة أننا ** سلم غداة فوارس المقداد

فغضب سعد على حسان رضي الله عنهما وحلف: لا يكلمه أبداً، وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي، فجعلها للمقداد، فاعتذر إليه حسان رضي الله عنهما ومدحه بأبيات وقال: والله ما أردت ذلك ولكن الروي وافق اسم المقداد، لأن القصيدة دالية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يدور في فكره أبداً قصد اللفظ، فإنه من باب الترويق، وهو صلى الله عليه وسلم جد كله، فهو لا يعدل عنه لأنه موزون، بل لأنه لا يؤدي المعنى كما أن العرب تعدل عن اللحن ولا تحسن النطق به ولا تطوع ألسنتها له لكونه لحناً، لا لكونه حركة، فإن وافق شيء من الموزون ما أريد من المعنى لأجل أداء المعنى قاله، كما يقع لكثير من المصنفين الكلام الموزون وما قصده، وكما وقع كثير من الكلام الموزون من جميع أبحر الشعر في القرآن وإن لم يوافق المعنى لم يقله، وعلى هذا يتخرج قوله صلى الله عليه وسلم:
أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب

لو تظاهر الإنس والجن على أن يأتوا بما أداه من المعنى في ألفاظه أو مثلها على غير هذا النظم لم يقدروا، وإذا تأملت كل بيت تمثل به فكسره لا تجده كسره إلا لمعنى جليل، لا يتأتى مع الوزن أو يكون لا فرق بين أدائه موزوناً ومكسوراً، وهكذا السجع سواء، ومن هنا علم أنه ليس المعنى أنه لا يحسن الوزن، بل المعنى أن تعمد الوزن والسجع نقيصة لا تليق بمنصبه العالي لأن الشاعر مقيد بوزن وروي وقافية، فإن إطاعه المعنى مع ما هو مقيد به كان وإلا احتال في إتمام ما هو مقيد به وإن نقص المعنى، والساجع قريب من ذلك، فهذا هو الذي لم يعلمه الله له، لأنه صلى الله عليه وسلم تابع للمعاني والحقائق والحكم التي تفيد الحياة الدائمة، لأنه مهيأ بالطبع المستقيم لذلك غير مهيأ لغيره من التكلف، وإذا أنعمت النظر في آخر الآية الذي هو تعليل لما قبله تحققت أن هذا هو المراد، فوضح أيّ وضوح بهذا أن كلاًّ منهما نقيصة، فلا يتحرك شيء من أخلاقه الشريفة نحوها، ولا يكون له بذلك شيء من الاعتناء، وقد أشبعت الكلام في هذا وأتقنته في كتابي: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور وهو كالمدخل إلى هذا الكتاب والله الموفق للصواب.
ولما أخبر سبحانه بإعماء أفكارهم، وهدد بطمس أبصارهم، ومسخهم على مقاعدهم وقرارهم، وأعلم بأن كتابه خاتم بإنذارهم، ذكرهم بقدرته وقررهم تثبيتاً لذلك ببدائع صنعته، فقال عاطفاً على ما تقديره: ألم يروا ما قدمناه وأفهمته آية {ومن نعمره} وما بعدها من بدائع صنعنا تلويحاً وتصريحاً الدال على علمنا الشامل وقدرتنا التامة، فمهما صوبنا كلامنا إليه حق القول عليه ولم يمنعه مانع، ولا يتصور له دافع {أولم يروا} أي يعلموا علماً هو كالرؤية ما هو أظهر عندهم دلالة من ذلك في أجل أموالهم، ولا يبعد عندي- وإن طال المدى- أن يكون معطوفاً على قوله: {ألم يروا كما أهلكنا قبلهم من القرون} فذاك استعطاف إلى توحيده بالتحذير من النقم، وهذا بالتذكير بالنعم، ونبههم على ما في ذلك من العظمة بسوق الكلام في مظهرها كما فعل في آية إهلاك القرون فقال: {أنا خلقنا لهم} وخصها بنفسه الشريفة محواً للأسباب وإظهاراً لتشريفهم بتشريفها في قوله: {مما عملت}.
ولما كان الإنسان مقيداً بالوهم لا ينفك عنه، ولذلك يرة الأرواح في المنام في صور أجسادنا، وكانت يده محل قدرته وموضع اختصاصه، عبر له بما يفهمه فقال: {أيدينا} لأي بغير واسطة على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها {أنعاماً} ثم بين كونها لهم بما سبب عن خلقها من قوله: {فهم لها مالكون} أي ضابطون قاهرون من غير قدرة لهم على ذلك لولا قدرتنا بنوع التسبب.
ولما كان الملك لا يستلزم الطواعية، قال تعالى: {وذللناها لهم} أي يسرنا قيادها، ولو شئنا لجعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف، فمن قدر على تذليل الأشياء الصعبة جداً لغيره فهو قادر على تطويع الأشياء لنفسه، ثم سبب عن ذلك قوله: {فمنها ركوبهم} أي ما يركبون، وهي الإبل لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها، ولمثل ذلك في التذكير بعظيم النعمة والنفع واستقلال كل من النعمتين بنفسه أعاد الجار، وعبر بالمضارع للتجدد بتجدد الذبح بخلاف المركوب فإن صلاحه لذلك ثابت دائم فقال: {ومنها يأكلون}.
ولما أشار إلى عظمة نفع الركوب والأكل بتقديم الجار، وكانت منافعها من غير ذلك كثيرة، قال: {ولهم فيها منافع} أي بالأصواف والأوبار والأشعار والجلود والبيع وغير ذلك، وخص المشرب من عموم المنافع لعموم نفعه، فقال جامعاً له لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة، وكأنه عبر بمنتهى الجموع لاختلاف طعوم أفراد النوع الواحد لمن تأمل {ومشارب} أي من الألبان، أخرجناها مميزة عن الفرث والدم خالصة لذيذة، وكل ذلك لا سبب له إلا أن كلمتنا حقت به، فلم يكن بد من كونه على وفق ما أردنا، فليحذر من هو أضعف حالاً منها من حقوق أمرنا ومضي حكمنا بما يسوءه.
ولما كانت هذه الأشياء من العظمة بمكان، لو فقده الإنسان لتكدرت معيشته، سبب عن ذلك استئناف الإنكار عليهم في تخلفهم عن طاعته بقوله: {أفلا يشكرون} أي يوقعون الشكر، وهو تعظيم المنعم لما أنعم وهو استفهام بمعنى الأمر.

.تفسير الآيات (74- 76):

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)}
ولما ذكرهم نعمه، وحذرهم نقمه، عجب منهم في سفول نظرهم وقبح أثرهم، فقال موبخاً ومقرعاً ومبكتاً ومعجباً من زيادة ضلالهم عادلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه: {واتخذوا} أي فعلنا لهم ذلك والحال أنهم كلفوا أنفسهم على غير ما تهدي إليه الفطرة الأولى أن أخذوا، أو يكون معطوفاً على {كانوا} من قوله: {إلا كانوا به يستهزءون} فيكون التقدير: إلا كانوا يجددون الاستهزاء، واتخذوا قبل إرساله إليهم مع ما رأوا من قدرتنا وتقبلوا فيه من نعمتنا: {من دون الله} أي الذي له جميع العظمة، فكل شيء دونه، وما كان دونه كان مقهوراً مربوباً {آلهة} أي لا شيء لها من القدرة ولا من صلاحية الإلهية. ولما تقرر أنها غير صالحة لها أهلوها له، تشوف السامع إلى السؤال عن سبب ذلك، فقال جواباً له تعجيباً من حالهم: {لعلهم} أي العابدين. ولما كان مقصودهم حصول النصر من أي ناصر كان، بني للمفعول قوله: {ينصرون} أي ليكون حالهم بزعمهم في اجتماعهم عليها والتئامهم بها حال من ينصر على من يعاديه ويعانده ويناويه.
ولما كان للنصر سببان: ظاهري وهو الاجتماع، وأصلي باطني وهو الإله المجتمع عليه، بين غلطهم بتضييع الأمل، فقال مستأنفاً في جواب من كأنه قال: فهل بلغوا ما أرادوا؟: {لا يستطيعون} أي الألهة المتخذة {نصرهم} أي العابدين {وهم} أي العابدون {لهم} أي الآلهة {جند} ولما كان الجند مشتركاً بين العسكر والأعوان والمدينة، عين المراد بضمير الجمع ولأنه أدل على عجزهم وحقارتهم فقال: {محضرون} أي يفعلون في الاجتماع إليها والمحاماة عنها فعل من يجمعه كرهاً إيالة الملك وسياسة العظمة، فصارت العبرة بهم خاصة في حيازة السبب الظاهري مع تعبدهم للعاجز وذلهم للضعيف الدون مع ما يدعون من الشهامة والأنفة والضخامة، فلو جمعوا أنفسهم على الله لكان لهم ذلك، وحازوا معه السبب الأعظم.
ولما بين ما بين من قدرته الباهرة، وعظمته الظاهرة، ووهي أمرهم في الدنيا والآخرة، وكان قد تقدم ما لوح إلى أنهم نسبوه صلى الله عليه وسلم إلى الشعر، وصرح باستهزائهم بالوعد مع ما قبل ذلك من تكذيبهم وإجابتهم للمؤمنين من تسفيههم وتضليلهم، سبب عن ذلك بعد ما نفى عنهم النصرة قوله تسلية له صلى الله عليه وسلم: {فلا يحزنك} قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الزاي، ومعناه: يجعل فيك، وقراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي تدل على أن المنهي عنه إنما هو كثرة الحزن والاستغراق فيه، لا ما يعرض من طبع البشر من أصله، فإن معنى أحزن فلاناً كذا، أي جعله حزيناً {قولهم} أي الذي قدمناه تلويحاً وتصريحاً وغير ذلك فيك وفينا ولما كان علم القادر بما يعمل عدوه سبباً لأخذه، علل ذلك بقوله مهدداً بمظهر العظمة: {إنا نعلم ما} أي كل ما {يسرون} أي يجددون إسراره {وما يعلنون} أي فنحن نجعل ما يسببونه لأذاك سبباً لأذاهم ونفعك إلى أن يصيروا في قبضتك وتحت قهرك وقدرتك.

.تفسير الآيات (77- 78):

{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)}
ولما أثبت سبحانه بهذا الدليل قدرته على ما هدد به أولاً من التحويل من حال إلى أخرى، فثبتت بذلك قدرته على البعث، وختم بإحاطة العلم الملزوم لتمام القدرة، أتبع ذلك دليلاً أبين من الأول فقال عاطفاً على {ألم يروا}: {أولم ير} أي يعلم علماً هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر.
ولما كان هذا المثل الذي قاله هذا الكافر لا يرضاه حمار لو نطق، أشار إلى غباوته بالتعبير بالإنسان الذي هو- وإن كان أفطن المخلوقات لما ركب فيه سبحانه من العقل- تغلب عليه الإنس بنفسه حتى يصير مثلاً فقال: {الإنسان} أي جنسه منهم ومن غيرهم وإن كان الذي نزلت فيه واحداً {أنا خلقناه} بما لنا من العظمة {من نطفة} أي شيء يسير حقير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا أباه من تراب وأمه من لحم وعظام {فإذا هو} أي فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة المطفة وهي أنه {خصيم} أي بالغ الخصومة {مبين} أي في غاية البيان عما يريده حتى أنه ليجادل من أعطاء العقل والقدرة في قدرته، أنشد الأستاذ أبو القاسم القشيري في ذلك:
أعلمه الرماية كل يوم ** فلما اشتد ساعده رماني

ولما كان التقدير: فبعد- مع أنا تفردنا بالإنعام عليه- عيرنا وخاصم- بما خلقناه له من اللسان وآتيناه من البيان- رسلنا وجميع أهل ودنا، عطف عليه قوله مقبحاً إنكارهم البعث تقبيحاً لا يرى أعجب منه، ولا أبلغ ولا أدل على التمادي، في الضلال والإفراط في الجحود وعقوق الأيادي: {وضرب} أي هذا الإنسان؛ وسبب النزول أبي بن خلف الجمحي الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بأحد مبارزة، فهو المراد بهذا التبكيت بالذات وبالقصد الأول {لنا} أي على ما يعلم من عظمتنا {مثلاً} أي آلهته التي عبدها لكونها لا تقدر على شيء مكابراً لعقله في أنه لا شيء يشبهنا {ونسي} أي هذا الذي تصدى على نهاية أصله لمخاصمة الجبار، وأبرز صفحته لمجادلته، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول، وأن بكون بمعنى الترك {خلقه} أي خلقنا لهذا المخاصم الدال على كمال قدرتنا، وأن آلهته التي أشرك بها لا تقدر على شيء فافترق الحال الذي جمعه بالمثل أيّ افتراق وصارا مقولاً له: يا قليل الفطنة! أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون؟ ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بالإخبار عن استحالته لأن يقدر أحد على إحياء الميت كما أن معبوداته لا تقدر على ذلك فقال: {قال} أي على سبيل الإنكار: {من يحيي}.
ولما كانت العظام أصلب شيء وأبعده عن قبول الحياة لاسيما إذا بليت وأرفتت قال: {العظام وهي} ولما أخبر عن المؤنث باسم لما بلي من العظام غير صفة، لم يثبت تاء التأنيث فقال: {رميم} أي صارت تراباً يمر مع الرياح.

.تفسير الآيات (79- 83):

{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}
ولما كان موطناً يتشوف فيه السامع لهذا الكلام إلى جوابه، استأنف قوله مخاطباً من لا يفهم هذه المجادلة حق فهمها غيره: {قل} أي لهذا الذي ضرب هذا المثل جهلاً منه في قياسه من يقدر على كل شيء على من لا يقدر على شيء، وأعاد فعل الإحياء نصاً على المراد دفعاً للتعنت ودلالة على الاهتمام فقال: {يحييها} أي من بعد أن بليت ثاني مرة، ولفت القول إلى وصف يدل على الحكم فقال: {الذي أنشأها} أي من العدم ثم أحياها {أول مرة} أي فإن كل من قدر على إيجاد شيء أول مرة فهو قادر على إعادته ثاني مرة، وهي شاهدة بأن الحياة تحل العظم فيتنجس بالموت مما يحكم بنجاسة ميتته {وهو بكل خلق} أي صنع وتقدير ممكن أن يخلق من ذلك ومن غيره ابتداء وإعادة {عليم} أي بالغ العلم، فلا يخفى عليه أجراء ميت أصلاً وإن تفرقت في البر والبحر، ولا شيء غير ذلك، فالآية من بديع الاحتباك: الإحياء أولاً دال على مثله ثانياً، والإنشاء ثانياً دال على مثله أولاً، و{أول مرة} في الثاني دال على ثاني مرة في الأول، فهو على كل شيء قدير كما برهن عليه في سورة طه، فهو يوجد المقتضيات لكل ممكن يريده، ويرفع الموانع فيوجد في الحال من غير تخلف أصلاً، فقد بلغ هذا البيان في الدلالة على البعث الجسماني والروحاني معاً النهاية التي ليس وراءها بيان، بعد أن وطأ له في هذه السورة نفسها بما لا يحتمل طعناً بقوله: {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} {من بعثنا من مرقدنا} {فإذا هم جميع لدينا محضرون} {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون} {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}.
ولما كان مآل هذا المثل الذي علق الإنكار فيه بالرميم استبعاد تمييز الشيء- إذا صار تراباً واختلط بالتراب- عن غيره من التراب، وصف نفسه المقدس بإخراج الشيء الذي هو أخفى ما يكون من ضده، وذلك بتمييز النار من الخشب الذي فيه الماء ظاهر بأيدي العجزة من خلقه، فقال معيداً للوصول تنبيهاً على التذكير بالموصوف ليستحضر ما له من صفات الكمال فيبادر إلى الخضوع له من كان حياً: {الذي جعل لكم} أي متاعاً واستبصاراً {من الشجر الأخضر} الذي تشاهدون فيه الماء {ناراً} بأن يأخذ أحدكم غصنين كالسواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ- وهو ذكر- على العفار- وهو أنثى- فتخرج النار! قال أبو حيان: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس شجر إلا وفيه نار إلا العناب- انتهى.
ولذلك قالوا في المثل المشهور: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار {فإذا أنتم} أي فيتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنكم {منه} أي الشجر الموصوف بالخضرة بعينه {توقدون} أي توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى، ما هو بخيال ولا سحر بل حقيقة ثابتة بينة، وكأنه قدم الجار لكثرة إيقادهم منه، إيقادهم من غيره لذلك ولعظمته عدماً.
ولما كان ذلك من غير كلفة عليهم، قدم الجار تخصيصاً له وعداً لغيره كالمعدوم، فالذي قدر على تمييز النار من الماء والخشب وخبء النار فيهما لا النار تعدو على الخشب فتحرقه ولا الماء يعدو على النار فيطفئها قادر على تمييز تراب العظام من تراب غيرها، ونفخ الروح كما نفخ روح النار في الحطب المضاد له بالمائية.
ولما كان التقدير: أليس الذي قدر على ذلك بقادر على ما يريد من إحياء العظام وغيرها، عطف عليه ما هو أعظم شأناً منه تقديراً على الأدنى بالأعلى فقال: {أوليس الذي خلق} أي أوجد من العدم وقدر {السماوات والأرض} أي على كبرهما وعظمتهما وعظيم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع، وأثبت الجار تحقيقاً للأمر وتأكيداً للتقرير فقال: {بقادر} أي بثابت له قدرة لا يساويها قدرة، ومعنى قراءة رويس عن يعقوب بتحتانية مفتوحة وإسكان القاف من غير ألف ورفع الراء أنه يجدد تعليق القدرة على سبيل الاستمرار {على أن يخلق} ولفت الكلام إلى الغيبة إيذابناً بأنهم صاروا بهذا الجدل أهلاً لغاية الغضب فقال: {مثلهم} أي مثل هؤلاء الأناسي أي يعيدهم بأعيانهم كما تقول: مثلك كذا أي أنت، وعبر به إفهاماً لتحقيرهم وأن إحياء العظام الميتة أكثر ما يكون خلقاً جديداً، بل ينقص عن الاختراع بأن له مادة موجودة، وعبر بضمير الجمع لأنه أدل على القدرة، قال الرازي: والقدرة عبارة عن المعنى الذي به يوجد الشيء مقدراً بتقدير الإرادة والعلم واقعاً على وفقهما وإن كانت صفات الله تعالى أعلى من أن يطمحها نظر عقل، وتلحقها العبارات اللغوية، ولكن غاية القدرة البشرية واللغة العربية هذا.
ولما كان الجواب بعد ما مضى من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة الاعتراف، قال سبحانه مقرراً لما بعد النفي إشارة إلى أنه تجب المبادرة إليه، ولا يجوز التوقف فيه ومن توقف فهو معاند: {بلى} أي هو قادر على ذلك {وهو} مع ذلك أي كونه عالماً بالخلق {الخلاق} البالغ في هذه الصفة مطلقاً في تكثير الخلق وتكريره بالنسبة إلى كل شيء ما لا تحيط به الأوهام، ولا تدركه العقول والأفهام، ولم ينازع أحد في العلم بالجزئيات بعد كونها، كما نازعوا في القدرة على إيجاد بعض الجزئيات، فاكتفى فيه بصيغة فعيل فقيل: {العليم} أي البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة، فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماضٍ ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب.
ولما تقرر ذلك، أنتج قوله مؤكداً لأجل إنكارهم القدرة على البعث: {إنما أمره} أي شأنه ووصفه {إذا أراد شيئاً} أي إيجاد شيء من جوهر أو عرض أيّ شيء كان {أن يقول له كن} أي أن يريده؛ ثم عطف على جواب الشرط على قراءة ابن عامر والكسائي بالنصب، واستأنف على قراءة غيره بالرفع بقوله: {فيكون} أي من غير مهلة أصلاً على وفق ما أراد.
ولما كان ذلك، تسبب عنه المبادرة إلى تنزيهه تعالى عما ضربوه له من الأمثال فلذلك قال: {فسبحان} أي تنزه عن كل شائبة نقص تبزها لا تبلغ أفهامكم كنهه، وعدل عن الضمير إلى وصف يدل على غاية العظمة فقال: {الذي بيده} أي بقدرته وتصرفه خاصة لا بيد غيره {ملكوت كل شيء} أي ملكه التام وملكه ظاهراً وباطناً.
ولما كان التقدير: فمنه تبدؤون، عطف عليه قوله: {وإليه} أي لا إلى غيره من التراب أو غيره، ولفت القول إلى خطابهم استصغاراً لهم وإحتقاراً فقال: {ترجعون} أي معنى في جميع أموركم وحساً بالبعث لينصف بينكم، فيدخل بعضاً النار وبعضاً الجنة، ونبهت قراءة الجماعة بالبناء للمفعول على غاية صغارهم بكون الرجوع قهراً وبأسهل أمر، وزادت قراءة يعقوب بالبناء للفاعل بأن انقيادهم في الرجوع من شدة سهولته عليه كأنه ناشئ عن فعلهم بأنفسهم اختياراً منهم، فثبت أنه سبحانه على كل شيء قدير، فثبت قطعاً أنه حكيم، فثبت قطعاً أنه لا إله إلا هو، وأن كلامه حكيم، وثبت بتمام قدرته أنه حليم لا يعجل على أحد بالعقاب، فثبت أنه أرسل الرسل للبشارة بثوابه والنذارة من عقابه، فثبت أنه أرسل هذا النبي الكريم لما أيده به من المعجزات، وأظهره على يده من الأدلة الباهرات، فرجع آخر السورة بكل من الرسالة وإحياء الموتى إلى أولها، واتصل في كلا الأمرين مفصلها بموصلها، والله الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب.