فصل: تفسير الآيات (29- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 37):

{قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)}
ولما أشار سبحانه بتسمية كلامهم هذا سؤالاً إلى أن مرادهم: فهل أنتم مغنون عنا شيئاً أو حاملون عنا جزءاً من العذاب؟ وكان كأنه قيل: بم أجاب الرؤساء بعد هذا القول من الأتباع؟ قيل: {قالوا بل} أي لم يكن كفرهم سبباً بل: {لم تكونوا مؤمنين} أي عريقين في هذا الوصف بجبلاتكم فلذلك تابعتمونا فيما أمرناكم به لأنه كان في طبعكم، وهذا دليل على أن من لم يكن راسخاً في الإيمان كان منهم، ثم أكدوا هذا المعنى بقوله نافين لما أشاروا باليمين إليه: {وما كان} أي كوناً ثابتاً {لنا عليكم} وأعرقوا في النفي بقولهم: {من سلطان} أي فأكرهنا بذلك السلطان، إنما تبعتمونا باختياركم وهو معنى {بل كنتم} أي جبلة وطبعاً {قوماً} أي ذوي قوة وكفاية لما تحاولونه من الأمور {طاغين} أي مجاوزين لمقاديركم غالين في الكفر مسرفين في المعاصي والظلم، ولذلك أنكم خلق لا تحتاجون فيه إلى كبير تحرك {فحق علينا} أي كلنا نحن وأنتم بسبب ذلك، وعبروا بما يدل على ندمهم فقالوا: {قول ربنا} أي الذي قابلنا إحسانه إلينا وتربيته لنا بالكفران، وقوله هو الحكم بالضلال لما في قلوبنا من القابلية له والإباء للإيمان، فالحكم بالعذاب.
ولما تصوروا ما صاروا إليه من الخطأ الفاحش عن الطريق الواضح، وعلموا أن مثل ذلك لا يتركه أحد إلا بقهر قاهر فتصوروا أنه ما قسرهم عليه إلا حقوق الكلمة العليا علموا أنهم مثل ما صاروا إلى حكمها في الكفر يصيرون إلى حكمها في العذاب، فقالوا لما دهمهم من التحسر مريدين بالتأكيد قطع أطماع الأتباع عما أفهمه كلامهم من أن الرؤساء يغنون عنهم شيئاً: {إنا} أي جميعاً {لذائقون} أي ما وقع لنا به الوعيد من سوء العذاب.
ولما قضوا علالة التحسر والتأسف والتضجر، رجعوا إلى إتمام ذلك الكلام فقالوا: {فأغويناكم} أي أضللناهم وأوقعناكم في الغي بسبب حقوق ذلك القول علينا، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدين أيضاً لرد ما ادعاه الأتباع من أنه ما كان سبب إغوائهم إلا الرؤساء: {إنا} أي جميعاً {كنا غاوين} أي في طبعنا الغواية، وهي العدول عن الطريق المثلى إلى المهالك.
ولما قال لهم الرؤساء ما هو الحق من أمرهم مما أوجب الحكم باشتراكهم، سبب عنه قوله تعالى مؤكداً دفعاً لمن يتوهم اختصاص العذاب بالسبب: {فإنهم} أي الفريقين بسبب ما ذكروا عن أنفسهم {يومئذ} أي يوم إذ كان هذا التقاول بينهم {في العذاب} أي الأكبر {مشتركون} أي في أصله، وهم مع ذلك متفاوتون في وصفه على مقادير كفرهم كما كانوا متشاركين في السبب متفاوتين في شدتهم فيه ولينهم- هذا وقد قال البخاري في صحيحه في تفسير حم السجدة: وقال المنهال عن سعيد: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} {ولا يكتمون الله حديثاً} {والله ربنا ما كنا مشركين} فقد كتموا في هذه الآية، وقال: {السماء بناها} إلى قوله: {دحاها} فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} إلى {طائعين} فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء، وقال: {وكان الله غفوراً رحيماً} {عزيزاً حكيماً} {سميعاً بصيراً} فكأنه كان ثم مضى، فقال: {فلا أنساب بينهم} في النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قوله: {ما كنا مشركين} {ولا يكتمون الله حديثاً} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فنختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً، وعنده يود الذين كفروا- الآية، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض، و{دحاها} أي أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: {دحاها} وقوله: خلق الأرض في يومين، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين، وكان الله غفوراً رحيماً، سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم يزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاًّ من عند الله.
وقال في سورة المرسلات: وسئل ابن عباس رضي الله عنهما {هذا يوم لا ينطقون} {والله ربنا ما كنا مشركين} {اليوم نختم على أفواههم} فقال: إنه ذو ألوان، مرة ينطقون ومرة يختم عليهم.
ولما أخبر سبحانه باشتراكهم، استأنف الإخبار بما يهول أمر عذابهم ويشير إلى عمومه في الدارين لكل من شاركهم في الإجرام، فقال مؤكداً دفعاً لظن من ينكر القيامة وظن من يرى الإملاء للمجرم في الدنيا نعمة وينفي كونه نقمة، أو يفعل في التمادي في الإجرام فعل المنكر؛ {إنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء {كذلك} أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن {نفعل} بهم- هكذا كان الأصل، ولكنه علق بالوصف تعميماً وتعليلاً فقال: {بالمجرمين} أي كل قاطع لما أمر الله به أن يوصل في الدنيا والآخرة، نمهل ثم نأخذ أخذاً عنيفاً يصير به المشتركون في الظلم أعداء يتخاصمون، ويحيل بعضهم على بعض ثم لا ينفعهم ذلك، بل نشارك بينهم في العقوبة، ثم علل تعذيبه لهم بقوله مؤكداً للتعجب منهم لأن فعلهم هذا أهل لأن ينكر لأن هذه الكلمة لا يصدق عاقل أن أحداً يستكبر عليها لأنه لا شيء أعدل منها: {إنهم كانوا} أي دائماً {إذ قيل لهم} أي من أيّ قائل كان: {لا إله} أي يمكن، وإذا نفي الممكن كان الموجود أولى فإنه لا يوجد إلا ما يمكن وجوده وإن كان واجباً {إلا الله} أي الملك الأعلى المباين لجميع الموجودات في ذاته وصفاته وافعاله كما هو الحق ليفردوه بالإلهية كما تفرد بالخالقية كما لا يخفى على من له أدنى مسكة بصفات الكمال، وقدم النفي لأن التحلية لا تكون إلا بعد التخلية {يستكبرون} أي يوجدون الكبر عن الإقرار بهذا الحق الذي لا أعدل منه وعن متابعة الداعي إليه، استكبار من هو طالب للكبر من نفسه ومن غيره لما فيه من العراقة والعتو، فلم يكن لهم مانع من أبواب جهنم السبعة التي جعلت كل كلمة من هذه الكلمة مع قرينتها الشاهدة بإرساله مانعة من باب منها وإلا كان في شيء من ساعات أيامهم- التي هي بعدد حروفهما أربعة وعشرون- خير ينجيهم من المكارة.
ولما أخبر أنهم استكبروا على توحيد الإله، أتبعه الإخبار بأنهم تكلموا في رسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يرضاه: فقال: {ويقولون} أي كل حين ما دلوا به على بعدهم عن الإيمان كل البعد بسوقهم لقولهم ذلك في استفهام إنكاري مؤكداً: {إئنا لتاركوا آلهتنا} أي عبادتها، وكان تأكيد أصل الكلام للإشارة إلى أن تكذيبهم صادر منهم مع علمهم بأن كل عالم بحالهم يراهم جديرين بترك ما هم عليه لما جاء به صلى الله عليه وسلم، ولذلك أعلم بأن ما هم عليه عناد بسوق تكذيبهم على وجه معلوم التناقض بالبديهة بقوله: {لشاعر مجنون} فإن الجنون لا نظام معه، والشعر يحتاج إلى عقل رصين وقصد قويم، وطبع في الوزن سليم، أو للإشارة إلى أن إنكار المؤكد إنكار لغيره بطريق الأولى.
ولما كان مرادهم بذلك أن كلامه باطل، فإن أكثر كلام الشاعر غلو وكذب وكلام المجنون تخليط، كان كأنه قال في جوابهم: إنه لم يجئ بشرع ولا بجنون: {بل جاء بالحق} أي الكامل في الحقية.
ولما كان ما جاء به أهلاً لكونه حقاً لأن يقبل وإن خالف جميع أهل الأرض، وكان موافقاً مع ذلك لمن تقرر صدقهم واشتهر اتباع الناس لهم، فكان أهلاً لأن يقبله هؤلاء الذين أنزلوا أنفسهم عن أوج معرفة الرجال بالحق إلى حضيض معرفة الحق على زعمهم بالرجال، فكان مآل أمرهم التقليد قال: {وصدق المرسلين} أي الذين علم كل ذي لب أنهم أكمل بدور أضاء الله بهم الإكوان في كل أوان، وتقدم في آخر سورة فاطر أنهم عابوا من كذبهم {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم أحد منهم ليؤمنن به فكذبوا} بأن كذبوا سيدهم بهذا الكلام المتناقض.

.تفسير الآيات (38- 45):

{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)}
ولما وصلوا إلى هذا الحد من الطغيان، والزور الظاهر والبهتان، تشوف السامع إلى جزائهم فاستأنف الإخبار بذلك مظهراً له في أسلوب الخطاب إيذاناً بتناهي الغضب، فقال في قالب التأكيد نفياً لما يترجمونه من العفو بشفاعة من ادعوا أنهم يقربونهم زلفى، ووعظاً لهم ولأمثالهم في الدنيا فيما ينكرونه حقيقة أو مجازاً: {إنكم} أي أيها المخاطبون على وجه التحقير المجرمين {لذائقوا} أي بما كنتم تضيقون أولياء الله {العذاب الأليم}.
ولما كان سبحانه الحكم العدل فلا يظلم أحداً مثقال ذرة فلا يزيد في جزائه شيئاً على ما يستحق مع أن له أن يفعل ما يشاء ولا يكون فعله- كيفما كان- إلا عدلاً قال: {وما} أي والحال أنكم ما {تجزون} أي جزءاً من الجزاء {إلا ما} أي مثل ما. ولما كانوا مطبوعين على تلك الخلال السيئة، بين أنها كانت خلقاً لهم لا يقدرون على الانفكاك عنها بالتعبير بأداة الكون فقال: {كنتم تعملون} نفياً لوهم من قد يظن أنهم فعلوا شيئاً بغير تقديره سبحانه. ولما كان في المخاطبين بهذا من علم الله أنه سيؤمن، واستثنى من واو {ذائقوا} قوله مرغباً لهم في الإيمان مشيراً إلى أنهم لا يحملهم على الثبات على ما هم عليه من الضلال إلا غش الضمائر بالرياء وغيره، فهو استثناء متصل بهذا الاعتبار الدقيق: {إلا عباد الله} فرغبهم بوصف العبودية الذي لا أعز منه، وأضافهم زيادة في الاستعطاف إلى الاسم الأعظم الدال على جميع صفات الكمال، وزاد رغباً بالوصف الذي لا وصف أجلّ منه فقال: {المخلصين}.
ولما خلصهم منهم، ذكر ما لهم فقال معظماً لهم بأداة البعد: {أولئك} أي العالو القدر بما صفوا أنفسهم عن أكدار الأهوية {لهم رزق معلوم} أي يعلمون غائبه وكائنه وآتيه وطعمه ونفعه وقدره وغبّه وجميع ما يمكن علمه من أموره، وليسوا مثل ما هم عليه في هذه الدار من كدر الأخطار {لا تدري نفس ماذا تكسب غداً} لأن النفس إلى المعلوم أسكن، وبالأنس إليه أمكن.
ولما كان أهل الجنة لا يأكلون تقوتأً واحتياجاً، بل تنعماً والتذاذاً وابتهاجاً، لأن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد، فهي غير محتاجة إلى حفظ الصحة قال: {فواكه} أي يتنعمون بها بما كدروا من عيشهم في الدنيا. ولما كان الذي هو نعيم الجسم لا يحمد غاية الحمد إلا مع العز الذي هو غذاء الروح قال: {وهم مكرمون} بناه للمفعول إشارة إلى أن وجود إكرامهم من كل شيء أمر حتم لا يكون غيره أصلاً.
ولما كان الإكرام لا يتم إلا مع طيب المقام قال: {في جنات النعيم} أي التي لا يتصور فيها غيره.
ولما كان التلذذ لا يكمل إلا مع الأحباب، وكانت عادة الملوك الاختصاص بالمحل الأعلى، بين أنهم كلهم ملوك فقال: {على سرر متقابلين} أي ليس فيهم أحد وجهه إلى غير وجه الآخر على كثرة العدد. ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالشراب، وكان المقصود الطواف فيه، لا كونه من معين، قال: {يطاف} بالبناء للمفعول وكأنها يدلى إليهم من جهة العلو ليكون أشرف لها وأصون، فنبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي وهم فوق أسرتهم كالملوك {بكأس} أي إناء فيه خمر، قالوا: وإن لم يكن في الزجاجة خمر فهي قدح، ولا تسمى كأساً إلا والخمر فيها {من معين} أي من خمر جارية في أنهارها، ظاهرة للعيون تنبع كما تنبع الماء لا يعالجونها بعصير، ولا يحملهم على الرفق بها والتقصير فيها نوع تقصير، قال الرازي: إنما سميت به إما من ظهروها للعين أو لشدة جريها من الإمعان في السير أو لكثرتها من المعن، وهو الكثير، وسمي الماعون لكثرة الانتفاع به، ويقال: مشرب ممعون: لا يكاد ينقطع.

.تفسير الآيات (46- 54):

{بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)}
ولما كان أول ما يختار في الشراب لونه ثم طعمه، قال واصفاً ما في الكأس من الخمر استخداماً: {بيضاء} أي مشرقة صافية هي في غاية اللطافة تتلألأ نوراً، وأعرق في وصفها بالطيب بجعلها تفسيراً للمعنى في قوله: {لذة للشاربين} بما كانوا يتجرعون من كأسات الأحزان والأنكاد، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، وجمع إشارة إلى أنهم لا يعلونها إلا كذلك بما فيه من مزيد اللذة.
ولما كان قد أثبت لها الكمال، نفى عنها النقص فقال: {لا فيها غول} أي فساد من تصديع رأس أو إرخاء مفصل أو إخماء كبد أو غير ذلك مما يغتال أي يهلك، أو يكون سبباً للهلاك {ولا هم عنها} أي عادة بعد شربها {ينزفون} أي يذهب شيء من عقولهم وإن طال شربهم وكثر لئلا ينقص نعيمهم ولا ينفذ شرابهم أو ما عندهم من الجدة لكل ما يسر به- على قراءة حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف- مبنياً للفاعل مثل أقل وأعسر- إذا صار قليل المال، أو ذهب عقله، وقراءة الجماعة بالبناء للمفعول يحتمل أن تكون من نزف، وحينئذ يحتمل أن تكون من نفاذ الشراب من قولهم: نزفت الركية، اي ذهب ماؤها، وأن تكون من ذهاب العقل من قولهم: نزف الرجل بالبناء للفاعل ونزف بالبناء للمفعول بمعنى: ذهب عقله بالسكر ويحتمل أن تكون من أنزف وحينئذ يحتمل أن تكون من ذهاب العقل من أنزف الرجل- إذا ذهب عقله بالسكر، وأن تكون من عدم الشراب من قولهم: نزف الرجل الخمرة- سواء كان مبنياً للفاعل أو للمفعول- إذا أفناها.
ولما كان ذلك كله لا يكمل إلا بالجماع، والخمر أدعى شيء إليه، وهو لا يكمل النعيم به إلا بالاختصاص قال: {وعندهم} نساء من أهل الدنيا وغيرها {قاصرات الطرف} أي لا تطرف واحدة منهن إلى غير زوجها ولا يدعه تناهي حسنها وفرط جمالها طرفها يطرف إلى غيرها {عين} أي نجل العيون، جمع عيناء، كسرت عينه لمناسبة الياء.
ولما كان أحسن الألوان لاسيما عند العرب الأبيض الأحمر المشرب صفرة أكتسبته صفاء وإشراقاً وبهاء، قال: {كأنهن بيض} أي بيض نعام {مكنون} أي مصون من دنس يلحقه، وغبار يرهقه، ولمحبة العرب لهذا اللون كانت تقول عن النساء بيضات الخدور لأنه لونه أبيض مشرباً صفرة صافية، وقد صرح امرؤ القيس بهذا في لاميته المشهورة فقال:
كبكر مقاناة البياض بصفرة ** غذاها نمير الماء غير المحلل

أي مخالطة البياض المائل إلى الحمرة بصفرة، وهو أصفى الألوان واعدلها، يشابه لون نور القمر.
ولما كان ذلك الاجتماع إنما هو للسرور، وكان السرور لا يتم إلا بالمنادمة، وكان أحلى المنادمة ما يذكر بحلول نعمة أو انحلال نقمة، تسبب عن ذلك ولابد قوله إشارة إلى فراغ البال وصحة العقل بالإصابة في المقال: {فأقبل بعضهم} أي أهل الجنة بالكلام، وأشار إلى أن مجرد الإقبال بالقصد يلفت القلوب إلى سماعه بأداة الاستعلاء فقال: {على بعض} أي لأجل الكلام الذي هو روح ذلك المقام، وأما المواجهة فقد تقدم أنها دائمة، وبين حال هذا الإقبال فقال: {يتساءلون} أي يتحدثون حديثاً بيناً لا خفاء بشيء منه بما أشار إليه الإظهار بما حقه أن يهتم به ويسأل عنه من أحوالهم التي خلصوا منها بعد أن كادت ترديهم، وسماه سؤالاً لأنه مع كونه أهلاً لأن يسأل عنه- لا يخلو عن سؤال أدناه سؤال المحادث أن يصغي إلى الحديث، وعبر عنه بالماضي إعلاماً بتحققه تحقق ما وقع.
ولما تشوف السامع إلى سماع شيء منها يكون نموذجاً للباقي، أشار إلى ذلك بقوله مستأنفاً: {قال قائل منهم} أي في هذا التساؤل، وشتان ما بينه وبين ما مضى خبره من تساؤل أهل النار.
ولما كان ظنه أنه لا يخلص من شر ذلك القرين الذي يحدث عنه فنجاه الله منه على خلاف الظاهر، فكان ذلك إحدى النعم الكبرى، نبه عليه بالتأكيد فقال: {إني كان لي قرين} أي جليس من الناس كأنه شيطان مبين {يقول} أي مكذباً بالبعث مستبعداً له غاية الاستبعاد مجدداً لقوله في كل وقت، يريد أن يختدعني بلطافة قياده إلى سوء اعتقاده: {أإنك لمن المصدقين} أي بالبعث- يوبخني بذلك ويستقصر باعي في النظر استثارة لهمتي وإلهاباً لنخوتي وحميتي، ويكرر الإنكار بقوله: {أإذ متنا} أي فذهبت أوراحنا {وكنا} أي كوناً راسخاً {تراباً وعظاماً} أي فانمحقت أجسامنا التي هي مراكب الأرواح {أإنا لمدينون} أي لمجزيون بعد ذلك بما عملنا بأن نبعث ونجازى، وكان تأكيده للإشارة منه إلى كل عاقل جدير بأن يكذب بما أقررت به لبعده، أو إلى أنه مكذب به ولو كان مؤكداً.
ولما كان هذا المقال سبباً لعظيم تشوف السامع إلى ما يكون بعده، وكان أهل الجنة من علو المكان والمكانة وصحة الأجسام وقوة التركيب ونفوذ الأبصار بحيث ينظرون ما شاؤوا من النار وغيرها مما دونهم متى شاؤوا، استانف قوله مشيراً إلى أن حاله هذت معلم أنه من أهل النار: {قال} أي هذا القائل لشربه هؤلاء الذين هم كما قال بعضهم في موشح:
رب شرب كالعقد قد نظموا ** في ثياب طرازها الكرم

فاغتنمت الهنا كما اغتنموا ** وظننت الكؤوس بينهمو

أنجماً في سما الهناء ترى ** كل نجم يغيب في بدر

{هل أنتم مطلعون} أي شافون قلبي بأن تتركوا ما أنتم فيه من تمام اللذة وتكلفوا أنفسكم النظر معي في النار لتسروني بذلك.