فصل: تفسير الآيات (84- 89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (84- 89):

{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}
ولما نزهه سبحانه عن الولد ودل على ذلك بأنه مالك كل شيء وملكه، وكان ذلك غير ملازم للألوهية، دل على أنه مع ذلك هو الإله لا غيره في الكونين بدليل بديهي يشترك في علمه الناس كلهم، وقدم السماء ليكون أصلاً في ذلك يتبع لأن الأرض تبع لها في غالب الأمور، فقال دالاً على أن نسبة الوجود كله إليه على حد سواء لأنه منزه عن الاحتياج إلى مكان أو زمان عاطفاً على ما تقديره: تنزه عما نسبوه إليه الذي هو معنى {سبحان}: {وهو الذي} هو {في السماء إله} أي معبود لا يشرك به شيء {وفي الأرض إله} توجه الرغباب إليه في جميع الأحوال، ويخلص له في جميع أوقات الأضطرار، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذه الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في مثل هذا الاستحقاق، فعبادة غيره باطلة، قال في القاموس: أله- أي بالفتح- إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة، ومنه: لفظ الجلالة- وأصله: إله بمعنى معبود وكل ما اتخذ معبوداً فهو إله عند متخذه، وأله كفرح: تحير، فقد علم من هذا جواز تعلق الجار بإله.
ولما كان الإله لا يصلح للألوهية إلا إذا كان يضع الأشياء في محلها بحيث لا يتطرق إليه فساد، ولا يضرها إفساد مفسد، وكان لا يكون كذلك إلا بالغ العلم قال: {وهو الحكيم} أي البليغ الحكمة، وهي العلم الذي لأجله وجب الحكم من قوام من أمر المحكوم عليه في عاجلته وآجلته، ولما كانت الحكمة العلم بما لأجله وجب الحكم قال تعالى: {العليم} أي البالغ في علمه إلى حد لا يدخل في عقل العقلاء أكثر من وصفه به على طريق المبالغة ولو وسعوا أفكارهم وأطالوا أنظارهم لأنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفة من صفاته ليقاس به، وكل من ادعى فيه أنه شريك له لا يقدر من أشرك به أن يدعي له ما وصف به من الإجماع على ألوهيته ومن كمال علمه وحكمه، فثبت قطعاً ببطلان الشركة بوجه يفهمه كل أحد، فلا خلاص حينئذ إن خالف كائناً من كان، وإذا قد صح أنه الإله وحده وأنه منزه عن شريك وولد وكل شائبة نقص كان بحيث لا يخاف وعيده، فلا يخوض ولا يعلب عبده، ومن خاض منهم أو لعب فلا يلومن إلا نفسه، فإن عمله محفوظ بعلمه فهو مجاز عليه بحكمته.
ولما نزه ذاته الأقدس وأثبت لنفسه استحقاق الإلهية بالإجماع من خلقه بما ركزه في فطرهم وهداهم إليه بعقولهم، أتبع ذلك أدلة أخرى بإثبات كل كمال بما تسعه العقول وبما لا تسعه مصرحاً بالملك فقال: {وتبارك} أي ثبت ثباتاً لا يشبهه ثبات لأنه لا زوال مع التيمن والبركة وكل كمال، فلا تشبيه له حتى يدعي أنه ولد له أو شريك، ثم وصفه بما يبين تباركه واختصاصه بالإلهية فقال: {الذي له ملك السماوات} أي كلها {والأرض} كذلك {وما بينهما} وبين كل اثنين منها، والدليل على هذا الإجماع القائم على توحيده عند الاضطرار.
لما ثبت اختصاصه بالملك وكان الملك لا يكون إلا عالماً بملكه وكان ربما ادعى مدع وتكذب معاند في الملك أو العلم، قطع الأطماع بقوله: {وعنده} أي وحده {علم الساعة} سائقاً له مساق ما هو معلوم الكون، لا مجال للخلاف فيه إشارة إلى ما عليها من الأدلة القطعية المركوزة في الفطرة الأولى فكيف يما يؤدي إليه الفكر من الذكر المنبه عليه السمع، ولأن من ثبت اختصاصه بالملك وجب قبول أخباره لذاته، وخوفاً من سطواته، ورجاء في بركاته {وإليه} أي وحده لا إلى غيره بعد قيام الساعة {ترجعون} بأيسر أمر تحقيقاً لملكه وقطعاً للنزاع في وحدانيته، وقراءة الجماعة وهم من عدا ابن كثير وحمزة والكسائي وورش عن يعقوب بالخطاب أشد تهديداً من قراءة الباقين بالغيب، وأدل على تناهي الغضب على من لا يقبل إليه بالمتاب بعد رفع كل ما يمكن أن يتسبب عنه ارتياب.
ولما أرشد السياق قطعاً إلى التقدير: فلا شريك له في شيء من ذلك ولا ولده ولا يقدر أحد منهم على التخلف عن الرجوع إليه كما أنه لا يقدر أحد على مدافعة قضائه وقدره، عطف عليه قوله: {ولا يملك} أي بوجه من الوجوه في وقت ما {الذين يدعون} أي يجعلونهم في موضع الدعاء بعبادتهم لهم، وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى: {من دونه} من أدنى رتبة من رتبته من الأصنام والملائكة والبشر وغيرهم {الشفاعة} أي فلا يكون منهم شفيع كما زعموا أنهم شفعاؤهم {إلا من شهد} أي منهم {بالحق}. أي التوحيد الذي يطابقه الواقع إذا انكشف أتم انكشاف وكذا ما يتبعه فإنه يكون أهلاً لأن يشفع كالملائكة والمسيح عليهم الصلاة والسلام، والمعنى أن أصنامهم التي ادعوا أنها تشفع لهم لا تشفع غير أنه تعالى ساقه على أبلغ ما يكون لأنه كالدعوى.
ولما كان ذلك مركوزاً حتى في فطر الكفار فلا يفزعون في وقت الشدائد إلا إلى الله، ولكنهم لا يلبثون أن يعملوا من الإشراك بما يخالف ذلك، فكأنه لا علم لهم قال: {وهم} أو والحال أن من شهد {يعلمون} أي على بصيرة مما شهدوا به، فلذلك لا يعملون بخلاف ما شهدوا إلا جهلاً منهم بتحقيق معنى التوحيد، فلذلك يظنون أنهم لم يخرجوا عنه وإن أشكروا، أو يكون المعنى: وهم من أهل العلم، والأصنام ليسوا كذلك، وكأنه أفرد أولاً إشارة إلى أن التوحيد فرض عين على كل أحد بخصوصه وإن خالفه كل غير، وجمع ثانياً إيذاناً بالأمر بالمعروف ليجتمع الكل على العلم والتوحيد هو الأساس الذي لا تصح عبادة إلا به، وتحقيقه هو العلم الذي لا علم يعدله، قال الرازي في اللوامع: وجميع الفرق إنما ضلوا حيث لم يعرفوا معنى الواحد على الوجه الذي ينبغي إذ الواحد قد يكون مبدأ العدد، وقد يكون مخالطاً للعدد، وقد يكون ملازماً للعدد، والله تعالى منزه عن هذه الواحدات- انتهى.
ففي الآية تبكيت لهم في أنهم يوحدون في أوقات، فإذا أنجاهم الذي وحدوه جعلوا شكرهم له في الرخاء إشراكهم به، ومنع لهم من ادعاء هذه الرتبة، وهي الشهادة بالحق لأنهم انسلخوا بإشراكهم عن العلم، وأن الملائكة لا تشفع لهم لأن ذلك يؤدي إلى أن تكون قد عملت بخلاف ما تعلم، وذلك ينتج الانسلاخ من العلم المؤهل للشفاعة، وقال ابن الجوزي: وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به.
ولما كان التقدير لتقرير وجود إلهيته في الأرض بالاجتماع: فلئن سألتهم من ينجيهم في وقت كروبهم ليقولن: الله، ليس لمن ندعوه من دونه هناك فعل، فقال عطفاً عليه: {ولئن سألتهم} أي الكفار {من خلقهم} أي العابدين والمعبودين معاً، أجابوا بما يدل على عمى القلب الحقيقي المجبول عليه والمطبوع بطابع الحكمة الإلهية عليه، ولم يصدقوا في جواب مثله بقوله: {إذ سألتهم}: {ليقولن الله} الذي له جميع صفات الكمال هو الذي خلق الكل ليس لمن يدعوه منه شيء، ولذلك سبب عنه قوله: {فأنّى} أي كيف ومن أي جهة بعد أن أثبتوا له الخلق والأمر {يؤفكون} أي يقلبون عن وجوه الأمور إلى أقفائها من قالب ما كائناً من كان، فيدعون أن له شريكاً تارة بالولدية، وتارة بغيرها، مع ما ركز في فطرهم مما ثبت به أنه لا شريك له لأن له الخلق والأمر كله.
ولما أبطل سبحانه شبهتهم ووهى غاية التوهية أمرهم في شركهم وادعائهم الولد وغير ذلك مما تضمنته أقوالهم الفاسدة المنسوبة إليهم في هذه السورة، وأقام حجج الحق، ونصب براهين الصدق، وأُبت ما ينفعهم، وحذرهم ما يضرهم، حتى ختم ذلك بقوله مقسماً مع جلالة قدره وعظم أمره {لقد جئناكم بالحق} ثم حصر أمرهم في رد ذلك إن ردوه إلى قسمين في حالين: حال مجاهرة وحال مماكرة، وأخبر أنه لا نجاة لهم على حالة منهما، وأخبر أن رسله تعالى يكتبون جميع أمورهم، ذلك مع غناه عن ذلك لعلمه بما يكتبونه من ذلك وغيره مما لا يطلعون، عليه، فكان ذلك فخراً عظيماً ملاحماً أشد الملاحمة لما قدمه من شبهتهم في ادعاء الولد فأكد إبطالها وحقق زوالها، وختم بالتعجيب من حالهم في تركهم وجوه الأمور واتباعهم أقفائها، وكان من جملة ذلك عملهم عمل من يظن أن الله سبحانه لا يسمع قولهم الموجب لأخذهم وقول رسوله: الموجب لنصره، عطف على ما مضى من إنكارهم عليهم عدم سماعه لقولهم، ولما كان اشتدادهم في تكذيبهم ومباعدتهم وعنادهم لا يزداد بمرور الزمان إلا قوة أوقع في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أسفاً ورقة وشفقة عليهم وعطفاً، وصار يشكو أمرهم إلى ربه شكوى المضطر سراً وعلناً إرادة التيسير في أمرهم والتهوين لشأنهم، فاختير للتعبير عن هذا المعنى مصدر {قال} المشترك لفظه مع لفظ الماضي المبني للمجهول إشارة إلى أن شكواه بذلك كأنها صارت أمراً ضرورياً له لا اختيار له في قوله فكأنه صار قولاً من غير قائل أو من غير قصد، لأنه صار حالاً من الأحوال، ووصل به الضمير من غير تقدم ذكر، إشارة إلى أن ضميره قد امتلأ بتلك الشفقة عليهم والرحمة لهم، فقال تعالى عطفاً على سرهم المقدر بعد {بلى} في قوله تعالى: {إنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} أو يكون معطوفاً على محل الساعة أي ويعلم قيله قاله الزجاج، وعدل في هذا الوجه- وهو قراءة عاصم له وحمزة بالجر فإنه ظاهر في تعلقه بذلك لعطفه على لفظ {الساعة} وقرئ شاذاً بالرفع، ووجهه أن الواو للحال، أي كيف يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا بالخلق والحال أن قيله كذا في شكايتهم، أفيظنون أنا لا ننصره وقد أرسلناه: {وقيله} الذي صار في ملازمته وعدم انفكاكه حالاً من الأحوال، الدال على وجه قيله وانكسار نفسه بما دلت عليه كسرة المصدر وياؤه المجانسة لها، والتعبير بقوله: {يا رب} دال على ذلك بما تفيده {يا} الدالة على بعد، أو تقديره، والرب الدال على الإحسان والعطف والشفقة والتدبير والسيادة الاختصاص والولاية، وذلك على غير العادة في دعاء المقربين، فإنها جارية في القرآن بإسقاط أداة النداء.
ولما كان الإرسال إليهم- والمرسل قادر- مقتضياً لإيمانهم، أكد ما ظهر له من حالهم بقوله زيادة في التحسر وإشارة إلى أن تأخير أمرهم يدل على أن إيمانهم مطموع فيه: {إن هؤلاء} لم يضفهم إلى نفسه بأن يقول: قومي، ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما ساءه من حالهم، وأتى بهاء المنبهة قبل اسم على غير عادة الأصل إشارة إلى أن استشعر من نفسه بعداً استصغاراً لها واحتقاراً {قوم} أي أقوياء على الباطل {لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم هذا الفعل.
ولما كان هذا قولاً دالاً على غاية ما يكون من بلوغ الجهد، تسبب عنه ما يسره بإيمانهم وبلوغهم الرتب العالية التي هي نتيجة ما كان مترجى لهم أول السورة، وذلك كله ببركته صلى الله عليه وسلم في سياق ظاهره التهديد وباطنه- بالنسبة إلى علمه- البشارة بالتشديد فقال: {فاصفح عنهم} أي اعف عمن أعرض منهم صفحاً فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ {وقل} أي لهم: {سلام} أي شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم {فسوف يعلمون} بوعد لا خلف فيه، فهذا ظاهره تهديد كبير، وقراءة المدنيين وابن عامر بالخطاب أشد تهديداً، وباطنه من التعبير بالصفح عنهم والسلام بشارة لأنهم يصيرون علماء فيفوقون الأمم في العلم بعد أن يفوقهم في العقل- بما أفهمه أول السورة- فيعلون الأمم في المشي على مناهيج العقل، فللّه دره من آخر عانق الأول، ومقطع رد إلى المطلع تنزل، يا ناظم اللآلئ! أين تذهب عن هذا البناء العالي، وتغفل عن هذا الجوهر الرخص الغالي، وتضل عن هذا الضياء اللامع الملألئ، ثم أعلاه فأنزله، وأغلاه بدر المعاني وفضله.

.سورة الدخان:

.تفسير الآيات (1- 8):

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)}
فقال: {والكتاب} أي الجامع لكل خير {المبين} أي البين في نفسه، الموضح لما تقدم من دقيق البشارة لأهل الصفاء والبصارة، واضح النذارة بصريح العبارة، وغير ذلك من كل ما يراد منه، ولأجل ما ذكر من الاستبعاد أكد جواب القسم وأتى به في مظهر العظمة فقال: {إنا} أي بما لنا من العظمة {أنزلناه} أي الكتاب إما جميعاً إلى بيت العزة في سماء الدنيا أو ابتدأنا إنزاله إلى الأرض {في ليلة مباركة} أي ليلة القدر- قاله ابن عباس رضي الله عنهما أو النصف من شعبان، فلذلك يتأثر عنه من التأثيرات ما لم تحط به الأفهام في الدين والدنيا، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ينزل إلى سماء الدنيا كل سنة بمقدار ما كان جبريل عليه السلام ينزله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة وسماها {مباركة} لأنها ليلة افتتاح الوصلة وأشد الليالي بركة يكون العبد فيها حاضراً بقلبه مشاهداً لربه، يتنعم فيها بأنوار الوصلة ويجد فيها نسيم القربة، وقال الرازي في اللوامع: وأعظم الليالي بركة ما كوشف فيها بحقائق الأشياء.
ولما كان هذا موضحاً لما لوح به آخر تلك من البشارة في ظاهر النذارة، علل الإنزال أو استأنف ما فيه من واضح النذارة الموصل إلى المعاني المقتضية للبشارة، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم: {إنا} أي على ما نحن عليه من الجلال {كنا} بما لنا من العظمة دائماً لعبادنا {منذرين} لا نؤاخذهم من غير إنذار، فلأجل رحمتنا لهؤلاء القوم وهم أرق الناس طبعاً وأصفاهم قلوباً وأوعاهم سمعاً نوصلهم بما هيأناهم به من ذلك إلى ما لم يصل غيرهم إليه ولم يقاربه من المعالي في الأخلاق والشمائل والاكتساب لجميع الفضائل.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة حم السجدة وسورة الشورى من ذكر الكتاب العزيز ما قد أشير إليه مما لم تنطو سورة غافر على شيء منه، وحصل من مجموع ذلك الإعلام بتنزيله من عند الله وتفصيله وكونه قرآناً عربياً إلى ما ذكر تعالى من خصائصه إلى قوله: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون} [الزخرف: 44] وتعلق الكلام بعد هذا بعضه ببعض إلى آخر السورة، افتتح تعالى سورة الدخان بما يكمل ذلك الغرض، وهو التعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا فقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} ثم ذكر من فضلها فقال {فيها يفرق كل أمر حكيم} فحصل وصف الكتاب بخصائصه والتعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا وتقدم الأهم من ذلك في السورتين قبل، وتأخر التعريف بوقت إنزاله إلى السماء الدنيا إذ ليس في التأكيد كالمتقدم، ثم وقع إثر هذا تفصيل وعيد قد أجمل في قوله تعالى: {فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون} وما تقدمه من قوله: {أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون} وقوله سبحانه: {أم يحسبون أنا نسمع سرهم ونجواهم} وتنزيهه سبحانه وتعالى نفسه عن عظيم افترائهم في جعلهم الشريك والولد- إلى آخر السورة، ففصل بعض ما أجملته هذه الآي في قوله تعالى في صدر سورة الدخان {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} وقوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى} والإشارة إلى يوم بدر، ثم ذكر شأن غيرهم في هذا وهلاكهم بسوء ما ارتكبوا ليشعروا أن لا فارق إن هم عقلوا واعتبروا، ثم عرض بقرنهم في مقالته ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم، ثم ذكر تعالى: {شجرة الزقوم} إلى قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} والتحم هذا كله التحاماً يبهر العقول، ثم اتبع بذكر حال المتقين جرياً على المطرد من شفع الترغيب والترهيب ليبين حال الفريقين وينتج علم الواضح من الطريقين، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} وقد أخبره مع بيان الأمر ووضوحه أنه {إنما يتذكر من يخشى} ثم قال {فارتقب} وعدك ووعيدهم {إنهم مرتقبون}.
ولما وصف ليلة إنزال هذا القرآن بالبركة، وأعلم أن من أعظم بركتها النذارة، وكانت النذارة مع أنها فرقت من البشارة أمراً عظيماً موجباً لفرقان ما بين المحاسن والمساوئ من الأعمال قائدة إلى كل خير بدليل أن أتباع ذوي البركة من العلماء، وإذا تعارض عندهم أمر العالم والظالم، قدموا أمر الظالم لما يخافون من نذارته، وأهملوا أمر العالم وإن عظم الرجاء لبشارته، قال معللاً لبركتها بعد تعليل الإنزال فيها، ومعمماً لها يحصل فيها من بركات التفضيل: {فيها} أي الليلة المباركة سواء قلنا: إنها ليلة القدر أو ليلة النصف أصالة أو مآلاً {يفرق} أي ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة {كل أمر حكيم} أي محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحى به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياً في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً، قال البغوي رحمه الله: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر، والأرزاق والآجال، قال: وروى أبو الضحى عنه أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان فيسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقال الكرماني: فيسلمها إلى إلى أربابها وعملها من الملائكة ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان.
ولما كان هذا مفهماً لأمور لا حصر لها، بين أنه لا كلفة عليه سبحانه فيه، ولا تجدد عنده في وقت من الأوقات لشيء لم يكن قبل إلا تعليق القدرة على وفق الإرادة، فقال مؤكداً لفخامة ما تضمنه وصفه بأنه حكيم: {أمراً} أي حال كون هذا كله مع انتشاره وعدم انحصاره أمراً عظيماً جداً واحداً لا تعدد فيه دبرناه في الأزل وقررناه وأتقناه واخترناه ليوجد في أوقاته بتقدير، ويبرز على ما له من الإحكام في أحيانه في أقل من لمح البصر، ودل على أنه ليس مستغرقاً لما تحت قدرته سبحانه بإثبات الجار فقال: {من عندنا} أي من العاديات والخوارق وما وراءها.
ولما بين حال الفرقان الذي من جملته الإنذار، علله بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار: {إنا} أي بما لنا من أوصاف الكمال وكمال العظمة {كنا} أي أزلاً وأبداً {مرسلين} أي لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد، لابد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس، فلا يكون لأحد على الله حجة بعد الرسل، وهذا الكلام المنتظم والقول الملتحم بعضه ببعض، المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم تنزل صحيفة ولا كتاب إلا في هذه الليلة، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها كما بينته في كتابي: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور وكذا قوله في سورة القدر {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمور الحكيمة، وبين سبحانه حال الرسالات بقوله: {رحمة} وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله منا إلى قوله: {من ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك، فإن رسالاتهم كانت لبث الأنوار في العباد، وتمهيد الشرائع في العباد، حتى استنارت القلوب، واطمأنت النفوس، بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان، فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق، فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق.
ولما كانت الرسالة لابد فيها من السمع والعلم، قال: {إنه هو} أي وحده {السميع} أي فهو الحي المريد {العليم} فهو القدير البصير المتكلم، يسمع ما يقوله رسله وما يقال لهم، وكل ما يمكن أن يسمع وإن كان بحيث لا يسمعه غيره من الكلام النفسي وغيره الذي هو بالنسبة إلى سمعنا كنسبة ما تسمعه من الكلام إلى سمع الأصم وسمعه ليس كأسماعنا، بل هو متعلق بالمسموعات على ما هي عليه قبل وجودها كما أن علمه متعلق بالمعلومات كما هي قبل كونها.
ولما ذكر إنزال الكتاب على تلك الحال العظيمة البركة لأجل الإرسال، وبين أن معظم ثمرة الإرسال الإنذار لما للمرسل إليهم من أنفسهم من التوراة، دل على ذلك من التدبير المحكم الذي اقتضته حكمة التربية فقال: {رب} أي مالك ومنشئ ومدبر {السماوات} أي جميع الأجرام العلوية {والأرض} وما فيها {وما بينهما} مما تشاهدون من هذا الفضاء، وما فيه من الهواء وغيره، مما تعلمون من اكتساب العباد، وغيرهما مما لا تعلمون، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله.
ولما كانوا مقرين بهذا الربوبية ويأنفون من وصفهم بأنهم غير محققين لشيء يعترفون به، أشار إلى ما يلزمهم بهذا الإقرار إن كانوا كما يزعمون من التحقيق فقال: {إن كنتم موقنين} أي إن كان لكم إيقان بأنه الخالق لما ركز في غرائزكم وجبلاتكم رسوخ العلم الصافي السالم عن شوائب الأكدار من حظوظ النفوس وعوائق العلائق، فأنتم تعلمون أنه لابد لهذه الأجرام الكثيفة جداً المتعالي بعضها عن بعض بلا ممسك تشاهدونه مع تغير كل منها بأنواع الغير من رب، وأنه لا يكون وهي على هذا النظام إلا وهو كامل العلم شامل القدرة، مختار في تدبيره، حكيم في شأنه كله وجميع تقديره، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يدع من فيها من العلماء العقلاء الذين هم خلاصة ما فيهما هملاً يبغي بعضهم على بعض من غير رسول معلم بأوامره، وأحكامه وزواجره، منبه لهم على أنه ما خلق هذا الخلق كله إلا لأجلهم، ليحذروا سطواته ويقيدوا بالشكر على ما حباهم به من أنواع هباته.
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته، وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته، وبعدم الجري على نظام واحد من كل وجه فعله بالاختيار وقدرته، صرح بذلك منبهاً لهم على أن النظر الصحيح أنتج ذلك ولابد فقال تعالى: {لا إله إلا هو} أي وإلا لنازعه في أمرهما أو بعضه منازع، أو أمكن أن ينازع فيكون محتاجاً لا محالة، وإلا لدفع عنه من يمكن نزعه له وخلافه إياه، فلا يكون صالحاً للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإيحاء لكل من يوافقهم على مر الزمان وتطاول الدهر ومد الحدثان على نظام مستمر، وحال ثابت مستقر.
ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره، ثبت قوله تعالى: {يحيى ويميت} لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير، وهو تنبيه على تمام دليل الوحدانية لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه، ويحال شيء من الأمور عليه، فهما جملتان: الأولى نافية لما أثبتوه من الشركة، والثانية مثبتة لما نفوه من البعث.
ولما ثبت أنه المختص بالإفاضة والسلب، وكان السلب أدل على القهر، ذكرهم ما لهم من ذلك في أنفسهم فقال سبحانه: {ربكم} أي الذي أفاض عليكم ما تشاهدون من النعم في الأرواح وغيرها {ورب آبائكم} ولما كانوا يشاهدون من ربوبيته لأقرب آبائهم ما يشاهدون لأنفسهم، رقي نظرهم إلى النهاية فقال: {الأولين} أي الذين أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون، فلم يقدر أحد منهم على ممانعة ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة.