فصل: بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْوَصَايَا:

.بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ:

مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ:
قَالَ: (الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ) وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قِيلَ مَلَّكْتُكَ غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ وَخَافَ الْبَيَاتَ يَحْتَاجُ إلَى تَلَافِي بَعْضِ مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ مَضَى فِيهِ يَتَحَقَّقُ مَقْصِدُهُ الْمَآلِيُّ، وَلَوْ أَنْهَضَهُ الْبَرْءُ يَصْرِفُهُ إلَى مَطْلَبِهِ الْحَالِيِّ وَفِي شَرْعِ الْوَصِيَّةِ ذَلِكَ فَشَرَعْنَاهُ وَمِثْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ بَيَّنَّاهُ، وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ تَضَعُونَهَا حَيْثُ شِئْتُمْ»، أَوْ قَالَ حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، ثُمَّ يَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لِمَا رَوَيْنَا، وَسَنُبَيِّنُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشرح:
كِتَابُ الْوَصَايَا:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ، زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ، فَضَعُوهَا حَيْثُ شِئْتُمْ، أَوْ قَالَ: حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ»، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَمِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ عُبَيْدٍ.
فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ، بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ، زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ عَطَاءٍ إلَّا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ وَإِنْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، فَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، انْتَهَى.
وَحَدِيثُ مُعَاذٍ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ثَنَا عُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ، زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ، لِيَجْعَلَهَا لَكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مَوْقُوفًا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ بُرْدٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَذَكَرَهُ.
وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ»، انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَأَعْلَى مَنْ رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ طَرِيقًا غَيْرَ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَضَمْرَةُ مَعْرُوفَانِ، وَقَدْ اُحْتُمِلَ حَدِيثُهُمَا، انْتَهَى.
قُلْت: أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ بِهِ.
وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ: أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابَيْهِمَا عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَيْلِيِّ، مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ مَوْتِكُمْ، زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ»، انْتَهَى.
وَأَسْنَدَ ابْنُ عَدِيٍّ تَضْعِيفَهُ عَنْ النَّسَائِيّ، وَقَالَ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: يُحَدِّثُ بِالْأَبَاطِيلِ، انْتَهَى.
وَحَدِيثُ خَالِدِ بْنِ عُبَيْدٍ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ ثَنَا أَبِي ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَقِيلِ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عُبَيْدٍ السُّلَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ خَالِدِ بْنِ عُبَيْدٍ السُّلَمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَاكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ، زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ»، انْتَهَى.
قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ) لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» بَعْدَ مَا نَفَى وَصِيَّتَهُ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَالِ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُظْهِرْهُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ لِيَتَدَارَكَ تَقْصِيرَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَأَظْهَرَهُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ تَحَرُّزًا عَمَّا يَتَّفِقُ مِنْ الْإِيثَارِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ.
قَالَ: (إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ) لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ وَهُمْ أَسْقَطُوهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ) لِأَنَّهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يُسْنَدُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَهَذَا قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى، وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ فَلَوْ اسْتَنَدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةً قَبْلَهُ وَالرِّضَى بِبُطْلَانِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ رِضًا بِبُطْلَانِ الْحَقِيقَةِ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ وَأَجَازَهُ الْبَقِيَّةُ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» بَعْدَ مَا نَفَى وَصِيَّتَهُ بِالْكُلِّ، وَالنِّصْفِ.
قُلْت: أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا، وَإِنَّمَا تَرِثُنِي ابْنَتِي، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَبِالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالنِّصْفُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَبِالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّ صَدَقَتَك مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ نَفَقَتَك عَلَى عِيَالِك صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُك مِنْ مَالِك صَدَقَةٌ، وَإِنَّك أَنْ تَدَعَ أَهْلَك بِخَيْرٍ، أَوْ قَالَ: بِعَيْشٍ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، انْتَهَى.
بِلَفْظِ مُسْلِمٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فِي بَابِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ» وَفِي الْمَغَازِي، وَفِي الْفَرَائِضِ، وَفِي الْوَصَايَ، وَفِي كِتَابِ الْمَرْضَى، وَفِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَفِي الدَّعَوَاتِ، وَالْبَاقُونَ فِي الْوَصَايَا، وَقَوْلُهُ: أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ، عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ فِي الْوَصَايَا وَمَنْ عَدَاهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الثُّلُثَيْنِ، فَمَا بَعْدَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا بِلَفْظِ الْمُصَنِّفِ سَوَاءً، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِعَنْ سَعْدٍ، قَالَ: «عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت لَهُ: أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَالنِّصْفُ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»، انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي الْأَدَب، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي الْفَضَائِلِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «أُنْزِلَتْ فِي آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ، فَذَكَرَهُ، إلَى أَنْ قَالَ: وَمَرِضْتُ، فَأَرْسَلْتُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَانِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَقْسِمُ مَالِي حَيْثُ شِئْت، قَالَ: فَأَبَى.
قُلْت: فَالنِّصْفُ؟ قَالَ: فَأَبَى.
قُلْت: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: وَسَكَتَ، فَكَانَ بَعْدُ الثُّلُثُ جَائِزًا»
، مُخْتَصَرًا.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»، وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ.
قُلْت: غَرِيبٌ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرُهُ بِلَفْظِ: «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ»، وَرَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ بِلَفْظِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَقَالَ: لَا يَعْرِفُ أَحَدًا رَفَعَهُ غَيْرَ عُمَرَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمِصِّيصِيِّ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ مَوْقُوفًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ الصَّحِيحُ، وَرَفْعُهُ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ ثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ بِهِ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ مَوْقُوفًا، وَزَادَ: ثُمَّ تَلَا: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ} انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ رَوَوْهُ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، فَوَقَفُوهُ: مِنْهُمْ يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى، وَلَفْظُهُ: فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى: «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ».
وَفِي الْبَاقِي: «الضِّرَارُ».
حَدِيثٌ فِي الْبَابِ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْحُدَّانِيِّ عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ الرَّجُلَ، لَيَعْمَلُ أَوْ الْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ، قَالَ: وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} حَتَّى بَلَغَ: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ شَهْرٍ بِمَعْنَاهُ، وَرَوَاهُ كَذَلِكَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَعَنْهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَلَفْظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ، فَخُتِمَ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً، فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ، إلَى آخِرِهِ».
(وَكُلُّ مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي) عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ السَّبَبَ صَدَرَ مِنْ الْمُوصِي وَالْإِجَازَةَ رَفْعُ الْمَانِعِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبْضُ فَصَارَ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّاهِنِ.
قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاشِرًا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ» وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ إنَّهُ قَتَلَ الْمُوصِيَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَبْطُلُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ.
(وَلَوْ أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَجُوزُ) لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَالِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا، وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لَحِقَ الْوَرَثَةَ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِلْقَاتِلِ كَمَا لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَحَدِهِمْ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَقْضِيَةِ عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ وَصِيَّةٌ»، انْتَهَى.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مُبَشِّرٌ مَتْرُوكٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَقَالَ: لَا يَرْوِيهِ عَنْ حَجَّاجٍ غَيْرُ مُبَشِّرٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ مَنْسُوبٌ إلَى الْوَضْعِ، انْتَهَى.
وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: قَالَ أَحْمَدُ: مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ أَحَادِيثُهُ مَوْضُوعَةٌ، كَذِبٌ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَلِأَنَّهُ يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ فِي تَجْوِيزِهِ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَحُكْمُهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
(وَالْهِبَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ فِي هَذَا نَظِيرُ الْوَصِيَّةِ) لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ حُكْمًا حَتَّى تَنْفُذَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفَ فِي الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَقْتُ الْإِقْرَارِ.
قَالَ: (إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ) وَيُرْوَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ، وَلَوْ أَجَازَ بَعْضٌ وَرَدَّ بَعْضٌ تَجُوزُ عَلَى الْمُجِيزِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَبَطَلَ فِي حَقِّ الرَّادِّ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِنْ حَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ عَمْرٍو الْجُمَحِيِّ.
فَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ: أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: قَالَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ: مَا رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الشَّامِيِّينَ فَصَحِيحٌ، وَمَا رَوَاهُ عَنْ الْحِجَازِيِّينَ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَهَذَا رَوَاهُ عَنْ شَامِيٍّ ثِقَةٍ، انْتَهَى.
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، انْتَهَى.
فَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، وَلَفْظُهُ: «فَلَا يَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ» فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، قَالَ الْبَزَّارُ: وَلَا نَعْلَمُ لِعَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَذَا الْحَدِيثَ. انْتَهَى.
قُلْت: رَوَى لَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدِيثًا آخَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ بَعِيرِهِ، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَا يَحِلُّ لِي بَعْدَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ لِي، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ مَغَانِمِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَزِنُ هَذِهِ الْوَبَرَةَ»، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي أَطْرَافِهِ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتَادَةَ بِنَحْوِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ هَمَّامٌ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ قَتَادَةَ، فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ: ابْنَ غَنْمٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، وَمَطَرٌ عَنْ شَهْر، انْتَهَى.
قُلْت: حَدِيثُ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَحَدِيثُ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي أَوَاخِرِ السِّيرَةِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْهُ عَنْ شَهْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ.
وَحَدِيثُ أَنَسٍ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، انْتَهَى.
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: حَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَشَيْخُنَا الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فِي تَرْجَمَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُوَ السَّاحِلِيُّ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، هَكَذَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مَزِيدٍ الْبَيْرُوتِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، شَيْخٍ بِالسَّاحِلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: إنِّي لَتَحْت نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، انْتَهَى.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي الْفَرَائِضِ عَنْ يُونُسَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ»، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: وَيُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ قَاضِي خُرَاسَانَ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: كَانَ مُرْجِئًا، انْتَهَى.
وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهُ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، نَحْوَهُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ لَمْ يُدْرِكْ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ: وَقَدْ وَصَلَهُ يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ، فَرَوَاهُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، انْتَهَى.
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ سَهْلِ بْنِ عَمَّارٍ ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ»، انْتَهَى.
وَسَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ كَذَّبَهُ الْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، الْحَدِيثَ.
لَيْسَ فِيهِ: إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ، وَلَيَّنَ حَبِيبًا هَذَا، وَقَالَ: أَرْجُو أَنَّهُ مُسْتَقِيمُ الرِّوَايَةِ.
وَحَدِيثُ جَابِرٍ: أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْهَرَوِيِّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، انْتَهَى.
وَأَعَلَّهُ بِأَحْمَدَ هَذَا، وَقَالَ: هُوَ أَخُو يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، وَأَكْبَرُ مِنْهُ، وَأَقْدَمُ مَوْتًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَحَدِيثُ زَيْدٍ، وَالْبَرَاءِ: أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا عَنْ مُوسَى بْنِ عُثْمَانَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءِ، قَالَا: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، وَنَحْنُ نَرْفَعُ غُصْنَ الشَّجَرَةِ عَنْ رَأْسِهِ، فَقَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِي، وَلَا لِأَهْلِ بَيْتِي، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَلَيْسَ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ» انْتَهَى.
وَأَعَلَّهُ بِمُوسَى هَذَا، وَقَالَ: إنَّ حَدِيثَهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، انْتَهَى.
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ: أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا عَنْ نَاصِحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، الْوَلَدُ لِمَنْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»، انْتَهَى.
وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَ نَاصِحٍ هَذَا عَنْ النَّسَائِيّ، وَمَشَّاهُ هُوَ، وَقَالَ: إنَّهُ مِمَّنْ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «الدَّيْنُ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الْبُخَارِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَوَافَقَهُمْ.
وَحَدِيثُ خَارِجَةَ بْنِ عَمْرٍو: أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قُدَامَةَ الْجُمَحِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ عَمْرٍو الْجُمَحِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَأَنَا عِنْدَ نَاقَتِهِ: لَيْسَ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ، قَدْ أَعْطَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»، انْتَهَى.
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ نَجِيحٍ الطَّبَّاعُ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَأَنْ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، انْتَهَى.
قَوْلُهُ: وَيُرْوَى فِيهِ: إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ.
قُلْت: تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَالْكَافِرُ لِلْمُسْلِمِ) فَالْأَوَّلُ: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةُ، وَالثَّانِي لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلِهَذَا جَازَ التَّبَرُّعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ.
(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةُ.
قَالَ: (وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ رَدَّهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ.
قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ) سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَالِهِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ تَمَامِ حَقِّهِ فَلَا صِلَةَ وَلَا مِنَّةَ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا؟ قَالُوا إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ التَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» وَلِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْقَرَابَةِ جَمِيعًا وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ، فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَالتَّرْكُ هِبَةٌ مِنْ الْقَرِيبِ، وَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ يُخَيَّرُ لِاشْتِمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى فَضِيلَةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالصِّلَةُ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْخَيْرَيْنِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَمِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
فَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ، الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»، انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ غَيْرُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَلَا يَثْبُتُ، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: فَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَذَكَرَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ: فَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي أَوَاخِرِ الزَّكَاةِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ امْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَكَانَتْ قَدْ صَلَّتْ إلَى الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»، انْتَهَى.
وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَعَنْ الْحَاكِمِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: سَنَدُهُ صَحِيحٌ، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ فِي بَابِ الصَّدَقَةِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»، انْتَهَى.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ رَوَاهُ عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، فَلَمْ يُسْنِدْهُ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَالْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ) خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ يَقُولُ الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافَةٌ لِمَا أَنَّهُ انْتِقَالٌ ثُمَّ الْإِرْثُ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ.
وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إثْبَاتُ مِلْكٍ جَدِيدٍ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ.
أَمَّا الْوِرَاثَةُ فَخِلَافَةٌ حَتَّى يَثْبُتُ فِيهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ فَيَثْبُتُ جَبْرًا مِنْ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ.
قَالَ: (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي ثُمَّ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ فَيَدْخُلَ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ) اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبُولِ فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبُولِهِ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ جَانِبِ الْمُوصِي قَدْ تَمَّتْ بِمَوْتِهِ تَمَامًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنَّمَا تَوَقَّفَتْ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ فَإِذَا مَاتَ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي إذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ.
قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ) لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَاجَتَيْنِ، فَإِنَّهُ فَرْضٌ وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ وَأَبَدًا يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ.
(إلَّا أَنْ يُبَرِّئَهُ الْغُرَمَاءُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا.
قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَصِحُّ إذَا كَانَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ يَفَاعٍ أَوْ يَافِعٍ، وَهُوَ الَّذِي رَاهَقَ الْحُلُمَ وَلِأَنَّهُ نَظَرٌ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى وَلَوْ لَمْ تَنْفُذْ يَبْقَى عَلَى غَيْرِهِ، وَلَنَا أَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ وَفِي تَصْحِيحِ وَصِيَّتِهِ قَوْلٌ بِإِلْزَامِ قَوْلِهِ وَالْأَثَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحُلُمِ مَجَازًا أَوْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ بِالتَّرْكِ عَلَى وَرَثَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ النَّظَرُ إلَى أَوْضَاعِ التَّصَرُّفَاتِ لَا إلَى مَا يَتَّفِقُ بِحُكْمِ الْحَالِ اعْتَبَرَهُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا وَصِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ نَافِعًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَكَذَا إذَا أَوْصَى ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الْمُبَاشَرَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا أَدْرَكْتُ فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةٌ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُمَا مُسْتَتِمَّةٌ وَالْمَانِعُ حَقُّ الْمَوْلَى فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى حَالِ سُقُوطِهِ.
الشرح:
قَوْلُهُ: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ يَفَاعٍ، أَوْ يَافِعٍ، وَهُوَ الَّذِي رَاهَقَ الْحُلُمَ.
قُلْت: رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ فِي الْقَضَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّ هَاهُنَا غُلَامًا يَفَاعًا.
لَمْ يَحْتَلِمْ، مِنْ غَسَّانَ، وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ، وَهُوَ ذُو مَالٍ، وَلَيْسَ لَهُ هَاهُنَا إلَّا ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ، فَلْيُوصِ لَهَا، فَأَوْصَى لَهَا بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ: بِئْرُ جُشَمَ، قَالَ عَمْرٌو: فَبِيعَتْ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَابْنَةُ عَمِّهِ هِيَ أُمُّ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ، انْتَهَى.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، إلَّا أَنَّهُ مُنْتَسِبٌ لِصَاحِبِ الْقِصَّةِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ الْغَسَّانِيَّ، أَوْصَى، وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ، أَوْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، بِبِئْرٍ لَهُ، قُوِّمَتْ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَأَجَازَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَصِيَّتَهُ، انْتَهَى.
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَوْصَى غُلَامٌ بِنَا لَمْ يَحْتَلِمْ، لِعَمَّةٍ لَهُ بِالشَّامِ بِمَالٍ كَثِيرٍ، قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَجَازَ وَصِيَّتَهُ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً) لِأَنَّ مَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبَرُّعَ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَصِحُّ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ رَدًّا لَهَا إلَى مُكَاتَبٍ يَقُولُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ: (وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إذَا وَضَعَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اسْتِخْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً فِي بَعْضِ مَالِهِ وَالْجَنِينُ صَلَحَ خَلِيفَةً فِي الْإِرْثِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ إذْ هِيَ أُخْتُهُ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مَحْضٌ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيُمَلِّكَهُ شَيْئًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِعَرْضِ الْوُجُودِ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ وَبَابُهَا أَوْسَعُ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ وَعَجْزِهِ وَلِهَذَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوْجُودِ كَالثَّمَرَةِ فَلَأَنْ تَصِحَّ فِي الْمَوْجُودِ أَوْلَى.
قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ) لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَمَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ فَجَازَ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالْهِبَةِ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَلِأَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ وَالْإِيجَابُ يَصِحُّ بِإِبْطَالِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ.
قَالَ: (وَإِذَا صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ أَوْ فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ رُجُوعًا) أَمَّا الصَّرِيحُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا الدَّلَالَةُ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ فَقَامَ مَقَامَ قَوْلِهِ قَدْ أُبْطِلَتْ وَصَارَ كَالْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْخِيَارُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ، ثُمَّ كُلُّ فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُوصِي كَانَ رُجُوعًا، وَقَدْ عَدَدْنَا هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمُوصَى بِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ إلَّا بِهَا فَهُوَ رُجُوعٌ إذَا فَعَلَهُ مِثْلُ السَّوِيقِ يَلُتُّهُ بِالسَّمْنِ وَالدَّارِ يَبْنِي فِيهِ الْمُوصِي وَالْقُطْنِ يَحْشُو بِهِ وَالْبِطَانَةِ يُبَطِّنُ بِهَا وَالظَّاهِرَةِ يَظْهَرُ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ جِهَتِهِ بِخِلَافِ تَجْصِيصِ الدَّارِ الْمُوصَى بِهَا وَهَدْمِ بِنَائِهَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي التَّابِعِ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِ الْمُوصِي فَهُوَ رُجُوعٌ، كَمَا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَهَبَهُ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مِلْكِهِ فَإِذَا أَزَالَهُ كَانَ رُجُوعًا، وَذَبْحُ الشَّاةِ الْمُوصَى بِهَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ لِلصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ عَادَةً فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا أَيْضًا وَغَسْلُ الثَّوْبِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ ثَوْبَهُ غَيْرَهُ يَغْسِلُهُ عَادَةً فَكَانَ تَقْرِيرًا.
قَالَ: (وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا) كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا، لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ إثْبَاتٌ فِي الْمَاضِي وَنَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ جُحُودُ النِّكَاحِ فُرْقَةً.
(وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْت بِهَا لِفُلَانٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَرِبَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا) لِأَنَّ الْوَصْفَ يَسْتَدْعِي بَقَاءَ الْأَصْلِ.
(بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّهُ الذَّاهِبُ الْمُتَلَاشِي.
(وَلَوْ قَالَ أَخَّرْتُهَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَيْسَ لِلسُّقُوطِ كَتَأْخِيرِ الدَّيْنِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَرَكْتُ) لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ.
(وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ كَانَ رُجُوعًا) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ.
(بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ) لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ وَاللَّفْظُ صَالِحٌ لَهَا.
(وَكَذَا إذَا قَالَ فَهُوَ لِفُلَانٍ وَارِثِي يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ) لِمَا بَيَّنَّا وَيَكُونُ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ.
(وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ الْآخَرُ مَيِّتًا حِينَ أَوْصَى فَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى إنَّمَا تَبْطُلُ ضَرُورَةَ كَوْنُهَا لِلثَّانِي وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فَبَقِيَ لِلْأَوَّلِ.
(وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ حِينَ قَالَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهِيَ لِلْوَرَثَةِ) لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ الْأُولَى بِالرُّجُوعِ وَالثَّانِيَةِ بِالْمَوْتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.