فصل: فصلٌ: (مَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءُ بِعِيَالِهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.فصلٌ: (مَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءُ بِعِيَالِهِ):

(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءُ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ بَعْضَهُمْ قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِهِ)، لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِقَدْرِهِ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانُوا مَعْلُومِينَ.
(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِكِتَابِهِ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ، وَيَجِيءُ بِجَوَابِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ، لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَهَذَا، لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ دُونَ حَمْلِ الْكِتَابِ لِخِفَّةِ مُؤْنَتِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَقْلُ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِهِ وَقَدْ نَقَضَهُ فَيَسْقُطُ الْأَجْرُ كَمَا فِي الطَّعَامِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ (وَإِنْ تَرَكَ الْكِتَابَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَعَادَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالذَّهَابِ بِالْإِجْمَاعِ)، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَمْ يُنْتَقَضْ.
(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِطَعَامٍ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)، لِأَنَّهُ نَقَضَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ عَلَى مَا مَرَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا:

قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يُعْمَلُ فِيهَا)، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يُتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ (وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ) لِلْإِطْلَاقِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْكِنُ حَدَّادًا وَلَا قَصَّارًا وَلَا طَحَّانًا، لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا)، لِأَنَّهُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِمَا وَرَاءَهَا دَلَالَةً.
قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ)، لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا (وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ)، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ، وَلَا انْتِفَاعَ فِي الْحَالِ إلَّا بِهِمَا فَيَدْخُلَانِ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا الِانْتِفَاعُ فِي الْحَالِ إلَّا بِهِمَا فَيَدْخُلَانِ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا الِانْتِفَاعُ فِي الْحَالِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَلَا يَدْخُلَانِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ.
(وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا)، لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ (أَوْ يَقُولُ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ)، لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْخِيَرَةَ إلَيْهِ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ.
(وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ السَّاحَةَ لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ لِيَغْرِسَ فِيهَا نَخْلًا أَوْ شَجَرًا)، لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُقْصَدُ بِالْأَرَاضِيِ (ثُمَّ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْلَعَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَيُسَلِّمَهَا إلَيْهِ فَارِغَةً)، لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا وَفِي إبْقَائِهِمَا إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ حَيْثُ يُتْرَكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إلَى زَمَانِ الْإِدْرَاكِ، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً فَأَمْكَنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ.
قَالَ: (إلَّا أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكَهُ فَلَهُ ذَلِكَ) وَهَذَا بِرِضَا صَاحِبِ الْغَرْسِ وَالشَّجَرِ إلَّا أَنْ تَنْقُصَ الْأَرْضُ بِقَلْعِهِمَا فَحِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُهُمَا بِغَيْرِ رِضَاهُ.
قَالَ: (أَوْ يَرْضَى بِتَرْكِهِ عَلَى حَالِهِ فَيَكُونُ الْبِنَاءُ لِهَذَا وَالْأَرْضُ لِهَذَا)، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَهُ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَهُ.
قَالَ: (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الْأَرْضِ رَطْبَةٌ فَإِنَّهَا تُقْلَعُ)، لِأَنَّ الرِّطَابَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ)، لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ مَعْهُودَةٌ (فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ يَشَاءُ) عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ وَلَكِنْ إذَا رَكِبَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْكَبَ وَاحِدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُرَادًا مِنْ الْأَصْلِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى رُكُوبِهِ (وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِلُّبْسِ وَأَطْلَقَ جَازَ فِيمَا ذَكَرْنَا) لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اللُّبْسِ.
(وَإِنْ قَالَ عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا فُلَانٌ أَوْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ فُلَانٌ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَعَطِبَ كَانَ ضَامِنًا)، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ فَصَحَّ التَّعْيِينُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ لِمَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْعَقَارُ وَمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ، لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ الَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَاَلَّذِي لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ: (وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا وَقَدْرًا مَعْلُومًا يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: خَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ فِي الضَّرَرِ أَوْ أَقَلُّ كَالشَّعِيرِ وَالسِّمْسِمِ)، لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ الْإِذْنِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ أَوْ لِكَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ الْأَوَّلِ.
(وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْ الْحِنْطَةِ كَالْمِلْحِ وَالْحَدِيدِ) لِانْعِدَامِ الرِّضَا فِيهِ.
(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قُطْنًا سَمَّاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا)، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ أَضَرَّ بِالدَّابَّةِ فَإِنَّ الْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ ظَهْرِهَا وَالْقُطْنُ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِهَا.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ مَعَهُ رَجُلًا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالثِّقَلِ)، لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ يَعْقِرُهَا جَهْلُ الرَّاكِبِ الْخَفِيفِ وَيُخَفِّفُ عَلَيْهَا رُكُوبُ الثَّقِيلِ لِعِلْمِهِ بِالْفُرُوسِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْوَزْنِ، فَاعْتُبِرَ عَدَدُ الرَّاكِبِ كَعَدَدِ الْجُنَاةِ فِي الْجِنَايَاتِ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مِنْ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ مَا زَادَ الثِّقَلُ)، لِأَنَّهَا عَطِبَتْ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَالسَّبَبُ الثِّقَلُ فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا (إلَّا إذَا كَانَ حِمْلًا لَا يُطِيقُهُ مِثْلُ تِلْكَ الدَّابَّةِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهَا) لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهَا أَصْلًا لِخُرُوجِهِ عَنْ الْعَادَةِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِلِجَامِهَا أَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا مُتَعَارَفًا)، لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَكَانَ حَاصِلًا بِإِذْنِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إذْ يَتَحَقَّقُ السَّوْقُ بِدُونِهِ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمُبَالَغَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ فَجَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ نَفَقَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ) وَقِيلَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا لَا جَائِيًا لِيَنْتَهِيَ الْعَقْدُ بِالْوُصُولِ إلَى الْحِيرَةِ فَلَا يَصِيرُ بِالْعَوْدِ مَرْدُودًا إلَى يَدِ الْمَالِكِ مَعْنًى.
وَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ، وَقِيلَ لَا بَلْ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُودِعَ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مَقْصُودًا فَبَقِيَ الْأَمْرُ بِالْحِفْظِ بَعْدَ الْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ فَحَصَلَ الرَّدُّ إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ، وَفِي الْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ يَصِيرُ الْحِفْظُ مَأْمُورًا بِهِ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ لَا مَقْصُودًا فَإِذَا انْقَطَعَ الِاسْتِعْمَالُ لَمْ يَبْقَ هُوَ نَائِبًا فَلَا يَبْرَأُ بِالْعَوْدِ، وَهَذَا أَصَحُّ.
قَالَ: (وَمَنْ اكْتَرَى حِمَارًا بِسَرْجٍ فَنَزَعَ السَّرْجَ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَاثِلُ الْأَوَّلَ تَنَاوَلَهُ إذْنُ الْمَالِكِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهِ، إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ فِي الْوَزْنِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ (وَإِنْ كَانَ لَا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ ضَمِنَ)، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ مُخَالِفًا.
(وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ لَا يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ) لِمَا قُلْنَا فِي السَّرْجِ وَهَذَا أَوْلَى (وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: يَضْمَنُ بِحِسَابِهِ)، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ كَانَ هُوَ وَالسَّرْجُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى السَّرْجِ فِي الْوَزْنِ فَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ فَصَارَ كَالزِّيَادَةِ فِي الْحِمْلِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْإِكَافَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السَّرْجِ، لِأَنَّهُ لِحَمْلٍ وَالسَّرْجُ لِلرُّكُوبِ، وَكَذَا يَنْبَسِطُ أَحَدُهُمَا عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ مَا لَا يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَكَانَ مُخَالِفًا كَمَا إذَا حَمَلَ الْحَدِيدَ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ الْحِنْطَةَ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا فِي طَرِيقِ كَذَا فَأَخَذَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِهِ يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ الْمَتَاعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الطَّرِيقِينَ تَفَاوُتٌ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ غَيْرُ مُفِيدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ تَفَاوُتٌ يَضْمَنُ لِصِحَّةِ التَّقْيِيدِ فَإِنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَلَمْ يُفَصِّلْ (وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا لَا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ ضَمِنَ)، لِأَنَّهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ فَصَارَ مُخَالِفًا (وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ)، لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ مَعْنًى وَإِنْ بَقِيَ صُورَةً.
قَالَ: (وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ فِيمَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ فِي الْبَرِّ ضَمِنَ) لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ مَعْنًى.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا رُطَبَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا)، لِأَنَّ الرِّطَابَ أَضَرُّ بِالْأَرْضِ مِنْ الْحِنْطَةِ لِانْتِشَارِ عُرُوقِهَا فِيهَا وَكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إلَى سَقْيِهَا فَكَانَ خِلَافًا إلَى شَرٍّ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَهَا (وَلَا أَجْرَ لَهُ)، لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْأَرْضِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.
(وَمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا) قِيلَ مَعْنَاهُ الْقَرْطَفُ الَّذِي هُوَ ذُو طَاقٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْقَمِيصِ، وَقِيلَ هُوَ مُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ، لِأَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يَضْمَنُهُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، لِأَنَّ الْقَبَاءَ خِلَافُ جِنْسِ الْقَمِيصِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَمِيصٌ مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّهُ يَشُدُّ وَسَطَهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُخَالِفًا، لِأَنَّ الْقَمِيصَ لَا يُشَدُّ وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعَ الْقَمِيصِ، فَجَاءَتْ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِقُصُورِ جِهَةِ الْمُوَافَقَةِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الدِّرْهَمَ الْمُسَمَّى كَمَا هُوَ فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ خَاطَهُ سَرَاوِيلَ وَقَدْ أَمَرَ بِالْقَبَاءِ، قِيلَ يَضْمَنُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ لِلِاتِّحَادِ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ بِضَرْبِ طَسْتٍ مِنْ شَبَهٍ فَضَرَبَ بِهِ كُوزًا فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ:

قَالَ: (الْإِجَارَةُ تُفْسِدُهَا الشُّرُوطُ كَمَا تُفْسِدُ الْبَيْعَ)، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقْدٌ يُقَالُ وَيُفْسَخُ (وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى).
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ اعْتِبَارًا بِبَيْعِ الْأَعْيَانِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، فَيُكْتَفَى بِالضَّرُورَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْهَا إلَّا أَنَّ الْفَاسِدَ تَبَعٌ لَهُ فَيُعْتَبَرُ مَا يُجْعَلُ بَدَلًا فِي الصَّحِيحِ عَادَةً لَكِنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارٍ فِي الْفَاسِدِ فَقَدْ أَسْقَطَا الزِّيَادَةَ، وَإِذَا نَقَصَ أَجْرُ الْمِثْلِ لَمْ يَجِبْ زِيَادَةُ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمَةٌ فِي نَفْسِهَا وَهِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فَإِنْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا.
الشرح:
بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ:
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَاسِدٌ فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ)، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ، فَكَانَ الشَّهْرُ الْوَاحِدُ مَعْلُومًا فَصَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ، وَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ (وَلَوْ سَمَّى جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ)، لِأَنَّ الْمُدَّةَ صَارَتْ مَعْلُومَةً.
قَالَ: (وَإِنْ سَكَنَ سَاعَةً مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ وَلَيْسَ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ وَكَذَلِكَ كُلَّ شَهْرٍ سَكَنَ فِي أَوَّلِهِ سَاعَةً)، لِأَنَّهُ تَمَّ الْعَقْدُ بِتَرَاضِيهِمَا بِالسُّكْنَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ هُوَ الْقِيَاسُ وَقَدْ مَالَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي وَيَوْمِهَا، لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَعْضَ الْحَرَجِ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْأُجْرَةِ)، لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ بِدُونِ التَّقْسِيمِ فَصَارَ كَإِجَارَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ يَوْمٍ (ثُمَّ يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِمَّا سَمَّى، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ)، لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا فِي حَقِّ الْإِجَارَةِ عَلَى السَّوَاءِ فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لَهُ.
(ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ حِينَ يُهِلُّ الْهِلَالُ فَشُهُورُ السَّنَةِ كُلُّهَا بِالْأَهِلَّةِ)، لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ (وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَالْكُلُّ بِالْأَيَّامِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ، وَالْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ، لِأَنَّ الْأَيَّامَ يُصَارُ إلَيْهَا ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَلَهُ أَنَّهُ مَتَى تَمَّ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ ابْتَدَأَ الثَّانِيَ بِالْأَيَّامِ ضَرُورَةً وَهَكَذَا إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَنَظِيرُهُ الْعِدَّةُ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَالْحَجَّامِ) أَمَّا الْحَمَّامُ فَلِتَعَارُفِ النَّاسِ وَلَمْ تُعْتَبَرْ الْجَهَالَةُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَأَمَّا الْحَجَّامُ.
فَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ الْأُجْرَةَ» وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَيَقَعُ جَائِزًا.
الشرح:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ».
قُلْت: غَرِيبٌ مَرْفُوعًا، وَلَمْ أَجِدْهُ إلَّا مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَهُ طُرُقٌ: أَحَدُهَا: رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ثَنَا عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْهُ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ، انْتَهَى.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَزَادَ فِيهِ: وَقَدْ رَأَى الصَّحَابَةُ جَمِيعًا أَنْ يَسْتَخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ، وَقَالَا: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ غَيْرُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَغَيْرُ أَبِي بَكْرٍ يَرْوِيهِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرِوَايَةُ ابْنِ عَيَّاشٍ أَشْبَهُ. انْتَهَى.
طَرِيقٌ آخَرُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَذَكَرَهُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ عِوَضُ سَيِّئٍ: قَبِيحٌ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْمَسْعُودِيُّ ضَعِيفٌ.
طَرِيقٌ آخَرُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي الْمَدْخَلِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ ثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ ثَنَا عَمَّارُ بْنُ زُرَيْقٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، فَذَكَرَهُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «احْتَجَمَ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «احْتَجَمَ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ»، انْتَهَى.
زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي لَفْظٍ: وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ، وَفِي لَفْظٍ: وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ، وَلِمُسْلِمٍ: وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا غُلَامًا لِبَنِي بَيَاضَةَ، فَحَجَمَهُ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ مُدًّا وَنِصْفًا، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ، فَحَطُّوا عَنْهُ نِصْفَ مُدٍّ، وَكَانَ عَلَيْهِ مُدَّانِ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: «سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ أَهْلَهُ فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ»، انْتَهَى.
أَحَادِيثُ الْخُصُومِ: وَلِأَحْمَدَ فِي مَنْعِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحِجَامَةِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ مُحَيِّصَةُ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ حَجَّامٌ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِهِ، فَقَالَ: أَلَا أُطْعِمُهُ أَيْتَامًا لِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَلَا أَتَصَدَّقُ بِهِ، قَالَ: لَا، فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يُعْلِفَهُ نَاضِحَهُ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ شَبَابَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةُ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةُ: «أَنَّ مُحَيِّصَةُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ حَجَّامٍ لَهُ، فَنَهَاهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ، حَتَّى قَالَ: أَعْلِفْهُ نَاضِحَك، أَوْ أَطْعِمْهُ رَقِيقَك»، انْتَهَى.
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا لَيْثٌ أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ مُحَيِّصَةُ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ حَجَّامٌ، يُقَالُ لَهُ: نَافِعٌ أَبُو طَيْبَةَ، فَانْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنْ خَرَاجِهِ، فَقَالَ: لَا تَقْرَبْهُ، فَرَدَّدَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ فَقَالَ: اعْلِفْ بِهِ النَّاضِحَ»، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَيُّوبَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: مُحَيِّصَةُ، بِلَفْظِ أَبِي دَاوُد، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَمَعَ الِاضْطِرَابِ فَفِيهِ مَنْ يُجْهَلُ حَالُهُ. انْتَهَى.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ عَسْبِ التَّيْسِ) وَهُوَ أَنْ يُؤَاجِرَ فَحْلًا لِيَنْزُوَ عَلَى الْإِنَاثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ» وَالْمُرَادُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ»، قُلْت: غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ» انْتَهَى.
وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ «عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ»، وَوَهَمَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فَرَوَاهُ فِي الْبُيُوعِ وَقَالَ: إنَّهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. انْتَهَى.
وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّ الْمُنْذِرِيَّ عَزَاهُ فِي مُخْتَصَرِهِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَمْ يَعْزِهِ لِلْبُخَارِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ ذَكَرَهُ فِي الْإِجَارَةِ، وَالْبَاقُونَ فِي الْبُيُوعِ، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَعَسْبِ التَّيْسِ»، انْتَهَى.
وَعَزَاهُ عَبْدُ الْحَقِّ لِلنَّسَائِيِّ، وَمَا وَجَدْته، وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ عَنْ مَالِكٍ إبَاحَةَ أُجْرَةِ عَسْبِ التَّيْسِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ حُمَيْدٍ الرُّؤَاسِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِلَابٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ، فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُطْرِقُ الْفَحْلَ، فَنُكْرَمُ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي الْكَرَامَةِ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بْنِ حُمَيْدٍ، انْتَهَى.
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَرَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَلَا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْحَجِّ وَكَذَا الْإِمَامَةُ وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ، لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ».
وَفِي آخِرِ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ «وَإِنْ اُتُّخِذْت مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا»، وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ وَقَعَتْ عَنْ الْعَامِلِ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْمُعَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُتَعَلِّمِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اسْتَحْسَنُوا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْيَوْمَ، لِأَنَّهُ ظَهَرَ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَفِي الِامْتِنَاعِ تَضْيِيعُ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
الشرح:
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
فَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ: رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ»، انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي بَابِ التَّرَاوِيحِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ الدَّسْتُوَائِيِّ بِهِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ جَدِّهِ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ كَذَلِكَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَكَذَلِكَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: فَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ يَحْيَى عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَرْفُوعًا، نَحْوَهُ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا خَطَأٌ، أَخْطَأَ فِيهِ حَمَّادُ بْنُ يَحْيَى، وَالصَّحِيحُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ نِبْرَاسَ الْبَصْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ سَوَاءً، وَأَسْنَدَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الضَّحَّاكِ بْنِ نِبْرَاسٍ هَذَا: لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَعَنْ النَّسَائِيّ قَالَ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.
أَحَادِيثُ الْبَابِ:
مِنْهَا حَدِيثُ الْقَوْسِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَمِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
فَحَدِيثُ عُبَادَةَ، لَهُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْبُيُوعِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي التِّجَارَاتِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ الْمَوْصِلِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: «عَلَّمْت نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ، فَأَهْدَى إلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا، فَقُلْت: لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي بِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنْ أَرَدْت أَنْ يُطَوِّقَك اللَّهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْبُيُوعِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. انْتَهَى.
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَالْحَاكِمُ قَدْ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ فِي الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ، فَإِنَّهُ صَحَّحَ حَدِيثَهُ هُنَا.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ صَاحِبُ مَنَاكِيرَ، لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَرْكِهِ.
وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ وَتَنَاقُضٌ، وَالْمُغِيرَةُ يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالْعِجْلِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَغَيْرُهُمْ، انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: الْأَسْوَدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ مَجْهُولُ الْحَالِ، وَلَا نَعْرِفُ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ: الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ الْمَوْصِلِيُّ يَرْوِي عَنْ عَطَاءٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ، كُنْيَتُهُ أَبُو هِشَامٍ، رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَوَكِيعٌ كَانَ يَنْفَرِدُ عَنْ الثِّقَاتِ، بِمَا لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ الْأَثْبَاتِ لَا يُحْتَجُّ بِمَا خَالَفَ فِيهِ الْأَثْبَاتَ، وَإِنَّمَا يُحْتَجُّ بِمَا وَافَقَ فِيهِ الثِّقَاتِ، انْتَهَى.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ثِقَةٍ عَنْ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ حَدَّثَنِي عُبَادَةَ بْنُ نُسَيٍّ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ مُهَاجِرًا دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ مِنَّا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ، فَدَفَعَ إلَيَّ رَجُلًا كَانَ مَعِي، وَكُنْت أَقْرَأْته الْقُرْآنَ، فَانْصَرَفْت يَوْمًا إلَى أَهْلِي، فَرَأَى أَنَّ عَلَيْهِ حَقًّا، فَأَهْدَى إلَيَّ قَوْسًا مَا رَأَيْت أَجْوَدَ مِنْهَا عُودًا، وَلَا أَحْسَنَ مِنْهَا عِطَافًا، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْته، فَقَالَ: جَمْرَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْك تَقَلَّدْتهَا، أَوْ تَعَلَّقْتهَا»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي كِتَابِ الْفَضَائِلِ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ بِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: فَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي التِّجَارَاتِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلْمٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْكَلَاعِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: «عَلَّمْت رَجُلًا الْقُرْآنَ، فَأَهْدَى إلَيَّ قَوْسًا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنْ أَخَذْتهَا أَخَذْت قَوْسًا مِنْ نَارٍ، قَالَ: فَرَدَدْتهَا»، انْتَهَى.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: هَذَا حَدِيثٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، فَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَنْ عُبَادَةَ، وَقِيلَ: عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ إنَّ ظَاهِرَهُ مَتْرُوكٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ، وَكَانَتْ غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا الْوَعِيدَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثِ الْخُدْرِيِّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، ذَهَبَ إلَى جَوَازِ الْأَخْذِ فِيهِ عَلَى مَا لَا يَتَعَيَّنُ فَرْضُهُ عَلَى مُعَلِّمِهِ، وَمَنَعَهُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهُ، وَحَمَلَ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافَ الْآثَارِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَرْزُقُ الْمُعَلِّمِينَ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أَنْ أَعْطِ النَّاسَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: حَدِيثُ أُبَيٍّ هَذَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، ذَكَرَهَا بَقِيٍّ بْنُ مَخْلَدٍ، وَغَيْرُهُ. انْتَهَى.
وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلْمٍ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ، رَوَى لَهُ ابْنُ مَاجَهْ هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ، وَذَكَرَهُ شَيْخُنَا الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَوْرٍ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانُ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ فِي آخِرِ الْبَابِ التَّاسِعَ عَشَرَ، مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ قَادِمٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَتَأَكَّلُ بِهِ النَّاسَ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ، لَيْسَ عَلَيْهِ لَحْمٌ»، انْتَهَى.
وَأَسْنَدَ عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى بَابِ قَوْمٍ بِالْبَصْرَةِ، فَاسْتَسْقَى مِنْهُمْ، فَلَمَّا أُخْرِجَ إلَيْهِ الْكُوزُ رَدَّهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ صِبْيَانِ هَذِهِ الدَّارِ قَرَأَ عَلَيَّ فَيَكُونُ ثَوَابِي مِنْهُ. انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَخَذَ قَوْسًا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، قَلَّدَهُ اللَّهُ قَوْسًا مِنْ نَارٍ»، انْتَهَى.
وَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ إلَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: رُوِيَ عَنْهُ أَبِي، وَسَأَلْته عَنْهُ، فَقَالَ: صَدُوقٌ، مَا بِحَدِيثِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ضَعِيفٌ، وَبَقِيَّةُ السَّنَدِ صَحِيحٌ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ بِهَذَا السَّنَدِ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْبَابِ حَدِيثًا آخَرَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «لَا تَسْتَأْجِرُوا الْمُعَلِّمِينَ»، وَفِي إسْنَادِهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: وَهُوَ دَجَّالٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَهَذَا مِنْ صُنْعِهِ، وَوَافَقَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ عَلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَحَادِيثُ الْخُصُومِ فِي الرُّخْصَةِ:
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ لَدِيغٍ فِي جَبِينِهِ، فَدَاوَوْهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا بِكُمْ، لَعَلَّهُ يَكُونُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ يَنْفَعُ، فَأَتَوْنَا، فَقَالُوا: أَيُّهَا الرَّهْطُ إنَّ سَيِّدَنَا لَدِيغٌ، فَابْتَغَيْنَا لَهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ، فَهَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْقِي، لَكِنْ وَاَللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، لَا نَرْقِي حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ، فَجَعَلَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَعْنِي فَاتِحَةَ الْكِتَابِ حَتَّى بَرَأَ، فَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَقَامَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ، فَوَفُّوهُمْ جُعْلَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْتَسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا بِهِ، فَغَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَصَبْتُمْ، اقْتَسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الطِّبِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ، أَوْ سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا، أَوْ سَلِيمًا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، عَلَى شَاءٍ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إلَى الصَّحَابَةِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: أَخَذْت عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ»، انْتَهَى.
وَوَهَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ فَعَزَاهُ لِلصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْبُخَارِيِّ، نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدِهَا: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا كُفَّارًا، فَجَازَ أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ، وَالثَّانِي أَنَّ حَقَّ الضَّيْفِ وَاجِبٌ، وَلَمْ يُضَيِّفُوهُمْ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الرُّقْيَةَ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ مَحْضَةٍ، فَجَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، انْتَهَى.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِم: وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ الْأَجْرِ فِي الرُّقَى، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيمِ بِالْأَجْرِ، وَالْحَدِيثُ إنَّمَا هُوَ فِي الرُّقْيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: «وَفِي آخِرِ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ: وَإِنْ اُتُّخِذْت مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا».
قُلْت: أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي إمَامَ قَوْمِي، قَالَ: أَنْتَ إمَامُهُمْ، وَاِتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذْ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا»، انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: «إنَّ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا» انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مُطَرِّفٍ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مُرْسَلًا، فَقَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الطَّائِفِ، وَقَالَ لَهُ: صَلِّ بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَلَا يَأْخُذُ مُؤَذِّنُك عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا»، انْتَهَى ذَكَرَهُ فِي تَرْجَمَةِ عُثْمَانَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ طَهْمَانَ الْقَطِيعِيِّ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي إمَامَ قَوْمِي، قَالَ: قَدْ فَعَلْت، ثُمَّ قَالَ: صَلِّ بِصَلَاةِ أَضْعَفِ الْقَوْمِ، وَلَا تَتَّخِذْ مُؤَذِّنًا يَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا»، انْتَهَى.
ذَكَرَهُ فِي تَرْجَمَةِ سَعِيدِ بْنِ طَهْمَانَ.
أَثَرٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ، قَالَ: سَمِعْت رَجُلًا، قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: إنِّي أُحِبُّك فِي اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: وَأَنَا أُبْغِضُك فِي اللَّهِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَنَا أُحِبُّك فِي اللَّهِ، وَأَنْتَ تُبْغِضُنِي فِي اللَّهِ؟، قَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّك تَأْخُذُ عَلَى أَذَانِك أَجْرًا، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَيَحْيَى الْبَكَّاءُ لَيْسَ بِذَاكَ الْمَعْرُوفِ، وَلَا لَهُ كَثِيرُ رِوَايَةٍ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَكَذَا سَائِرُ الْمَلَاهِي)، لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا مِنْ الشَّرِيكِ، وَقَالَا: إجَارَةُ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ) وَصُورَتُهُ: أَنْ يُؤَجِّرَ نَصِيبًا مِنْ دَارِهِ أَوْ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ.
لَهُمَا أَنَّ لِلْمُشَاعِ مَنْفَعَةً، وَلِهَذَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ فَصَارَ كَمَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ وَهَذَا، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُشَاعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَالتَّخْلِيَةُ اُعْتُبِرَتْ تَسْلِيمًا لِوُقُوعِهِ تَمْكِينًا وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمَكُّنُ، وَلَا تَمَكُّنَ فِي الْمُشَاعِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِحُصُولِ التَّمَكُّنِ فِيهِ، وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ حُكْمًا لِلْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَحُكْمُ الْعَقْدِ يَعْقُبُهُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطُ الْعَقْدِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُتَرَاخِي سَابِقًا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ فَالْكُلُّ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا شُيُوعَ وَالِاخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ لَا يَضُرُّ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ وَبِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَقَعُ جُمْلَةً، ثُمَّ الشُّيُوعُ بِتَفَرُّقِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا طَارِئٌ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وَلِأَنَّ التَّعَامُلَ بِهِ كَانَ جَارِيًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قِيلَ إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ وَالْقِيَامُ بِهِ وَاللَّبَنُ يَسْتَحِقُّ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ، وَقِيلَ: إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى اللَّبَنِ وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ، لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا وَسَنُبَيِّنُ الْعُذْرَ عَنْ الْإِرْضَاعِ بِلَبَنِ الشَّاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً اعْتِبَارًا بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: رُوِيَ أَنَّ التَّعَامُلَ بِاسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ قَالَ: (وَيَجُوزُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا لَا يَجُوزُ)، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ، فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلْخَبْزِ وَالطَّبْخِ، وَلَهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ التَّوَسُّعَةَ عَلَى الْأَظْآرِ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ فَصَارَ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، بِخِلَافِ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ، لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فَإِنْ سَمَّى الطَّعَامَ دَرَاهِمَ وَوَصَفَ جِنْسَ الْكِسْوَةِ وَأَجَلَهَا وَذَرْعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَدْفَعَ الطَّعَامَ مَكَانَهَا وَهَذَا لَا جَهَالَةَ فِيهِ (وَلَوْ سَمَّى الطَّعَامَ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ جَازَ أَيْضًا) لِمَا قُلْنَا (وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْجِيلُهُ)، لِأَنَّ أَوْصَافَهَا أَثْمَانٌ (وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ.
(وَفِي الْكِسْوَةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْأَجَلِ أَيْضًا مَعَ بَيَانِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ)، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إذَا صَارَ مَبِيعًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَبِيعًا عِنْدَ الْأَجَلِ كَمَا فِي السَّلَمِ.
قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا)، لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّ الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صِيَانَةً لِحَقِّهِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْنَعُهُ مِنْ غَشَيَانِهَا فِي مَنْزِلِهِ، لِأَنَّ الْمَنْزِلَ حَقُّهُ.
(فَإِنْ حَبِلَتْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْإِجَارَةَ إذَا خَافُوا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِهَا)، لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يُفْسِدُ الصَّبِيَّ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ الْفَسْخُ إذَا مَرِضَتْ أَيْضًا (وَعَلَيْهَا أَنْ تُصْلِحَ طَعَامَ الصَّبِيِّ)، لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ، فَمَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ غَسْلِ ثِيَابِ الصَّبِيِّ وَإِصْلَاحِ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الظِّئْرِ، أَمَّا الطَّعَامُ فَعَلَى وَالِدِ الْوَلَدِ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدُّهْنَ وَالرَّيْحَانَ عَلَى الظِّئْرِ فَذَلِكَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
(وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي الْمُدَّةِ بِلَبَنِ شَاةٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا)، لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِعَمَلٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْإِرْضَاعُ فَإِنَّ هَذَا إيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ.
قَالَ: (وَمَنْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ حِمَارًا يَحْمِلُ عَلَيْهِ طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ)، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَجْرَ بَعْضَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً بِقَفِيزٍ مِنْ دَقِيقِهِ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَسَادُ كَثِيرٍ مِنْ الْإِجَارَاتِ لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ وَهُوَ بَعْضُ الْمَنْسُوجِ أَوْ الْمَحْمُولِ إذْ حُصُولُهُ بِفِعْلِ الْأَجِيرِ فَلَا يُعَدُّ هُوَ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ، لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَّكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِحَمْلِ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
قَالَ: (وَلَا يُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ قَفِيزًا)، لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ فَالْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مِمَّا سَمَّى، وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِحَطِّ الزِّيَادَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِطَابِ حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْحَطُّ.
الشرح:
قُلْت: الْحَدِيثُ السَّابِعُ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ يَعْنِي قَفِيزَ الطَّحَّانِ.
قُلْت: أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ أَبِي كُلَيْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «نُهِيَ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ، وَعَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ ثَنَا سُفْيَانُ بِهِ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ جِهَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَقَالَ فِيهِ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ: إنِّي تَتَبَّعْته فِي كِتَابِ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ كُلِّ الرِّوَايَاتِ، فَلَمْ أَجِدْهُ إلَّا هَكَذَا: «نُهِيَ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ، وَقَفِيزِ الطَّحَّانِ»، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ يَعْتَقِدُ مَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيُّ مَرْفُوعًا.
قُلْت: إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَ لَنَا رِوَايَتَهُ لَا رَأْيَهُ، وَلَعَلَّ مَنْ يُبَلِّغُهُ يَرَى غَيْرَ مَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُقْبَلُ فِيهِ فِعْلُهُ لَا قَوْلُهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ مِنْ الدَّقِيقِ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْإِجَارَاتِ هُوَ جَائِزٌ)، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَمَلًا، وَيَجْعَلُ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ فَتَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ، وَلَهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا وَذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَلَا تَرْجِيحَ وَنَفْعُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّانِي وَنَفْعُ الْأَجِيرِ فِي الْأَوَّلِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِجَارَةُ إذَا قَالَ فِي الْيَوْمِ وَقَدْ سَمَّى عَمَلًا، لِأَنَّهُ لِلظَّرْفِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَكْرِيَهَا وَيَزْرَعَهَا أَوْ يَسْقِيَهَا وَيَزْرَعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ)، لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعَقْدِ وَلَا تَتَأَتَّى الزِّرَاعَةُ إلَّا بِالسَّقْيِ وَالْكِرَابِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقًّا كُلَّ شَرْطٍ هَذِهِ صِفَتُهُ يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ فَذِكْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ (فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُثْنِيَهَا أَوْ يُكْرِيَ أَنْهَارَهَا أَوْ يُسَرْقِنَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ)، لِأَنَّهُ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَمَا هَذَا حَالُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ، لِأَنَّ مُؤَاجِرَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا مَنَافِعَ الْأَجِيرِ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى بَعْدَ الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ قِيلَ الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ أَنْ يَرُدَّهَا مَكْرُوبَةً وَلَا شُبْهَةَ فِي فَسَادِهِ، وَقِيلَ أَنْ يَكْرِبَهَا مَرَّتَيْنِ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرُّبْعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَالْمُدَّةُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَرْيِ الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَهَا بِزِرَاعَةِ أَرْضٍ أُخْرَى فَلَا خَيْرَ فِيهِ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ جَائِزٌ وَعَلَى هَذَا إجَارَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسِ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ، لَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ دَيْنٍ، وَلَا يَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ.
وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيُّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ حِمَارَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَيْنٌ عِنْدَهُ وَبَيْعُ الْعَيْنِ شَائِعٌ جَائِزٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ أَوْ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ.
وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ، لِأَنَّ الْحَمْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ حُكْمِيٌّ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرَ وَلِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ، بِخِلَافِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَالِكَ الْمَنَافِعُ وَيَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُهَا بِدُونِ وَضْعِ الطَّعَامِ وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِلْكُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ.
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَزْرَعُهَا أَوْ أَيَّ شَيْءٍ يَزْرَعُهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ)، لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا، وَكَذَا مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُخْتَلِفٌ فَمِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ مَا لَا يَضُرُّ بِهَا غَيْرُهُ فَلَمْ يَكُنْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا.
قَالَ: (فَإِنْ زَرَعَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ فَلَهُ الْمُسَمَّى) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيَنْقَلِبُ جَائِزًا كَمَا إذَا ارْتَفَعَتْ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ قَبْلَ مُضِيِّهِ وَالْخِيَارَ الزَّائِدَ فِي الْمُدَّةِ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا إلَى بَغْدَادَ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ فَحَمَلَ مَا يَحْمِلُ النَّاسُ فَنَفَقَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)، لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً.
قَالَ: (فَإِنْ بَلَغَ بَغْدَادَ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى) اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
قَالَ: (وَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ) وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ (نُقِضَتْ الْإِجَارَةُ) دَفْعًا لِلْفَسَادِ إذْ الْفَسَادُ قَائِمٌ بَعْدُ.