فصل: تفسير الآيات (14- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (14- 18):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِن أزواجكم وأولادِكم عدواً لكم} يشغلونكم عن طاعة الله تعالى، ويُخاصمونكم في أمور الدنيا، أي: إنَّ من الأزواج أزواجاً يُعادين بعولتهنّ ويخاصمنَهم، ومن الأولاد أولاداً يُعادون آباءهم ويعقّونهم، {فاحذروهم}؛ كونوا على حذر منهم إن شغلوكم عن الله، فالضمير للعدو، فإنه يُطلق على الجمع، كقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي} [الشعراء: 77]، أو: للأزواج والأولاد جميعاً، فالمأمور به على الأول: الحذر عن الكل، وعلى الثاني: الحذر من البعض، لأنّ منهم مَن ليس بعدو، وإمّا الحذر عن عموم الفريقين، لاشتمالهما على العدو. {وإِن تَعفوا} عن ذنوبهم القابلة للعفو، بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا، أو بأمور الدين لكن مع التوبة، أو: تعفوا إذا اطّلعتم منهم على عداوة، {وتصفحوا}؛ تُعرضوا عن التوبيخ، {وتغفروا}؛ تستروا ذنوبهم، {فإِنَّ الله غفور رحيم} يغفر لكم ذنوبكم، ويعاملكم مثل ما عاملتم.
رُوي أنّ ناساً من أهل مكة أرادوا الهجرة، فتعلّق بهم نساؤهم وأولادهم، وقالوا: تنطلقون وتُضيعوننا، فرقُّوا لهم، ووقفوا، فلما هاجروا بعد ذلك، ورأوا الذين سبقوهم قد فَقِهُوا في الدين، وحازوا رئاسةَ التقدُّم، أرادوا أن يُعاقبوا أزواجهم وأولادهم، فرغّبهم في العفو.
{إِنما أموالُكم وأولادُكم فتنةٌ}؛ بلاءٌ ومحنةٌ، يوقعون في الإثم والعقوبة، أو: امتحان واختبار، يختبر بهما عبادَه، هل يصدونهم عن الخير أم لا، فيعرف القويّ في دينه من الضعيف. قال الحسن: أدخل {مِن} للتبعيض في الأزواج والأولاد؛ لأنَّ كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر {مِن} في فتنة الأموال والأولاد؛ لأنها لا تخلو من فتنة واشتغال قلب بها. كان لابن مسعود بَنون كالبُدور، فقيل له وهم بين يديه: أيسرُّونك؟ فقال: لا، إنما يسرُّني لو نفضت يدي من التراب عند دفنهم، فنفوز بأجورهم، قيل له: إنَّ لك الأجر في تربيتهم، فقال: كل ما يشغل عن الله مشؤوم. اهـ. من اللباب. وعن ابن مسعود: لا يقل أحدكم: اللهم اعصمني من الفتنة؛ إذ لا يخلو منها أحد، ولكن ليقل: اللهم إنني أعوذ بك من مضلاَّت الفتن. قال أبو بريدة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فجاءه الحسن والحسين، عليهما قميصان أحمران، يجرانهما، يعثران، ويقومان، فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر، حتى أخذهما، ثم قرأ: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}... الآية، ثم قال «إني رأيت هذين فلم أصبر» ثم أخذ في خطبته.
{واللهُ عنده أجرٌ عظيم} لمَن آثر محبةَ الله وطاعتَه على محبة الأموال والأولاد، والسعي في تدبير مصالحهم، وليس في الآية ترهيب من مخالطة الأزواج والأولاد، إنما المراد النهي عن الاشتغال بهم عن ذكر الله وطاعته، فإذا تيسّر ذلك معهم فالمخالطة أولى، فَعَن أنس رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله؛ الجلوس مع العيال أحب إليك أم في المسجد؟ قال: «جلوس ساعة مع العيال أحب إليَّ من الاعتكاف في مسجدي هذا، ودرهم تُنفقه على العيال أفضل من أن تنفقه في سبيل الله» انظر السمرقندي.
{فاتقوا اللهَ ما استطعتم} أي: ابذلوا جهدَكم وطاقتكم في تقواه، قال ابن عطية: تقدّم الخلاف هل هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] أو: مُبيّنة لها، والمعنى: اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم، وهذا هو الصحيح. اهـ. {واسمَعُوا} ما تُوعظون به، {وأطيعوا} فيما تُؤمرون به {وأَنفِقوا} مما رزقناكم في الوجوه التي أُمرتم، فالإنفاق فيها خالصاً لوجهه {خيراً لأنفسِكم} أي: وائتوا خيراً لأنفسكم {ومَن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} الفائزون بكل خير.
{إِن تُقرضوا اللهَ} بصرف أموالكم إلى المصارف التي عيّنها {قرضاً حسناً} مقروناً بالإخلاص {يُضاعِفْهُ لكم} بالواحدة عشراً إلى سبعمائة أو أكثر، {ويغفرْ لكم} ببركة الإنفاق ما فرط منكم، {واللهُ شكورٌ} يُعطي الجزيل في مقابلة القليل، {حليمٌ} لا يُعاجِل بالعقوبة، {عالمُ الغيب والشهادة} لا تخفى عليه خافية، {العزيزُ الحكيمُ} مبالغ في القدرة والحكمة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما يشغلك عن السير إلى الحضرة، أو عن الترقِّي في معاريج الوصلة، فهو عدو لك، فاحذره، بالفرار من موافقته والوقوف معه، فكن إبراهيميًّا، حيث رمَى أهلَه وولَده في وادٍ غير ذي زرع، وتركهم في كنف الله وحِفْظِه، فانظر كيف حَفِظَهم غايةَ الحفظ، وتولاهم غاية التولي، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم من كل جانب، وانصبّت عليهم الأرزاق من كل ناحية، فهذه عادته تعالى مع أهل التوكُّل والانقطاع إليه. ومِن الأزواج والأولاد مَن يزيد بالرجل ويُعينه على ربه، فهؤلاء ليسوا بأعداء. قال سهل: مَن دعاك مِن أهلك وولدك للميل للدنيا فهو عدو، ومَن واخاك على القناعة والتوكُّل فليس بعدو. اهـ. قال القشيري: إنَّ من أزواجكم: نفوسكم الأمَارة، وأولادكم: صفاتها ومُناها وأخلاقها الشهوانية، عدوًّا لكم، يمنعكم عن الهجرة إلى مدينة القلب، الذي هو بيت الرب، فاحذروا متابعتَهم بالكلية، وإن تعفوا عن هفواتكم الواقعة في بعض الأوقات، لكونهم مطية لكم، وتصفحوا عن التوبيخ، وتغفروا: تستروا ظلمتهم بنور إيمانكم وشعاع قلوبكم، فإنّ اللهَ غفور سائر لكم بستر لطفه، رحيم بإفاضة رحمته عليكم. اهـ. ببعض المعنى.
إنما أموالكم وأولادكم فتنة اختبار من الحق، ليعلم مَن يقف معها، أو ينفذ عنها، فأهل العناية لم يشغلهم عن الله شيء، فحين توجّهوا إليه كفاهم أمْرَهم، أو: بالغيبة عنها بالخمرة القوية. قال القشيري: أموالكم: أعمالكم المشوبة، وأولادكم: أخلاقكم المكدرة، فكدورة الطبع فتنة توجب افتتانكم بالإعراض عن الحق، والإقبال على الدنيا، وحب الجاه عند الناس، والتفاتهم إليكم بحسن الاعتقاد، والله عنده أجر عظيم بالفناء عن الكل والبقاء بالحق. اهـ.
{فاتقوا الله ما استطعتم} أي: غِيبوا عما سوى الله طاقة جهدكم، وتقدّم أنَّ قوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] خطاب لأهل التجريد، وهذا خطاب لأهل الأسباب، والله تعالى أعلم. وقال ابن عطاء: الاستطاعة على الظواهر والأعمال، وحق تقاته على القلوب والأحوال. اهـ. أي: اتقوا الله حق تقاته بتوجيه القلوب إليه بلا التفات، واتقوا الله ما استطعتم بعمل الجوارح قدر الطاقات. قال القشيري: ما أنتم في الجملة مستطيعين، ويتوجه إليكم التكليف، فاتقوا الله، والتقوى عن شهود التقوى، بعد ألاّ يكونَ تقصيرٌ في التقوى غايةُ التقوى. اهـ. واسمعوا منا بلا واسطة، وأطيعوا فيما نأمركم به مما يُقرب إلينا، وننهاكم عنه مما يُبعد عنا. قال القشيري: أطيعوا بالنفس لأحكام الشريعة، وبالقلب لآداب الطريقة، وبالروح بطلوع الحقيقة. اهـ. وأنفِقوا من أموالكم وعلومكم وأسراركم، على الطالبين والسالكين والواصلين، يكن خيراً لأنفسكم، لأنّ الناس نفس واحدة، فإنفاقك على غيرك إنفاق على نفسك، لانتفاء الغيرية في الأحدية. ومن يُوق شُحَّ نفسه بإنفاقها في مرضاة الله، بأن يُقدمها للمَتالف والمتاعب في طلب الوصول، فأولئك هم المفلحون الظافرون بشهود الحق. قال القشيري: ومَن يُوق شُحَّ نفسه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرَّر من رِقِّ المكونات، فأولئك هم المفلحون. اهـ. وعن بعضهم: مَن أنفق بكُرهٍ فهو شح، ومَن أَنفق بطوعٍ فهو الفرض، ومَن عُوفي من بلاء الجمع والمنع، والرغبة والحرص، فقد دخل في ميدان الفلاح. اهـ.
إن تُقرضوا الله بإعطاء وجودكم قرضاً حسناً، من غير اعتبار الغرض والعوض، بالفناء عن شهود القَرْض والحس، يُضاعفه لكم بالوجود الحق، المشتمل على جميع الموجودات الإضافية، ويغفر لكم: يستر عنكم مساوئكم وحسّ وجودكم قبل فنائكم في الله وبقائكم به. والله شكور يقبل مَن توجه إليه بلا شيء، حليم يُغيّب العبد عن شهود مساوئه، بإغراقه في إحسانه. عالم الغيب: بواطن الأرواح، والشهادة: شهادة ظواهر الأشباح، العزيز: المعزّ لأوليائه ومكل مَن انتسب إليه، الحكيم في قسمه المراتب على حسب التوجُّه. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة الطلاق:

.تفسير الآيات (1- 3):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
{ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ العدة واتقوا الله رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر...}.
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها النبيُّ إِذا طلقتم النساءَ}، خصَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالنداء، وعمَّ بالخطاب؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إمام أمته وقدوتهم، كما يُقال لرئيس القوم: يا فلان افعلوا كذا وكذا؛ إظهاراً لتقدُّمه، واعتباراً لترؤسه، وأنه قدوة قومه، فكان هو وحده في حكم كلّهم، وسادًّا مسدَّ جميعهم. ومعنى {إذا طلقتم}: إذا أردتم تطليقهن، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 6]، تنزيلاً للمقبل على الشيء المشارِف له منزلةَ الشارع فيه، كقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن قتل قتيلاً فله سلبه»، ومنه: كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المُصَلِّي. {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: مستقبلات لِعِدَّتهن، شارعة فيها، بمجرد الطلاق، من غير أن تكون في حيض أو نِفاس، فإنَّ المرأة إذا طلقت في طُهر تعتد بذلك الطُهر من أقرائها، فتخرج من العدّة برؤية الحيض الثالث، بخلاف إذا طُلقت في غير طُهر، فتنتظر الطُهر منه، فلا تخرج إلاّ برؤية الحيض الرابع. والمراد أن يُطلِّق في طُهر لم يمس فيه، وهذا هو طلاق السُنَّة. قال ابن جزي: واختلف في الطلاق: هل هو مباح أو مكروه، وأمّا إن كان على غير وجه السُنة فهو ممنوع. اهـ. وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فطلِّقوهن في قُبل عِدّتهن}.
قال ابن جزي: واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض، هل هو معلَّل بتطويل العدة، أو تعبُّد، والصحيح: أنه معلَّل بذلك، وينبني على هذا الخلاف فروع، منها: هل يجوز إذا رضيت به المرأةُ أم لا؟ ومنها: هل يجوز طلاقها في الحيض وهي حامل أم لا؟ ومنها: هل يجوز طلاقها قبل الدخول وهي حائض أم لا؟ فالتعليل بتطويل العدة يقتضي جواز هذه الفروع، والتعبُّد يقتضي المنع، ومَن طَلَّق في الحيض لزمه الطلاق، ثم أُمر بالرجعة على وجه الإجبار عند مالك، ودون إجبار عند الشافعي حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلَّق وإن شاء أمسك، حسبما ورد في حديث ابن عمر، حيث طلّق امرأته، فأمره صلى الله عليه وسلم برجعتها. اهـ.
{وأَحْصُوا العِدَّةَ}؛ اضبطوها، وأكمِلُوها ثلاثة أقراء كوامل، لِما ينبني عليها من الأحكام، كالرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك، {واتقوا اللهَ ربكم} في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن.
وفي التعبير بعنوان الربوبية تأكيد لِما أمر، ومبالغة في إيجاب الاتقاء.
{لا تُخرجوهن من بيوتهن}؛ من مساكنهن عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن، وإضافتها إليهن مع أنها للأزواج لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكانها، كأنها أملاكهن. {ولا يَخْرُجْن} ولو بالإذن منكم، فإنَّ الإذن في الخروج في حكم الإخراج، وقيل: لا يخرجن باستبدادهن، أمّا إذا اتفقا على الخروج جاز، وهو خلاف مذهب مالك، فلا يجوز لها في مذهبه المَبيت عن بيتها، ولا أن تغيب عنه، إلاّ لضرورة التصرُّف، وذلك لحفظ النسب، وصيانة المرأة، فإن كان المسكن ملكًا للزوج، أو مكترىً عنده لزمه إسكانها فيه، وإن كان المسكن لها فعليه كِراؤه مدة العدة، وإن كان قد استمتعته فيه مدة الزوجية؛ ففي لزوم خِراج العدة له قولان في المذهب، والصحيح لزومه؛ لأنّ الاستمتاع قد انقطع بالطلاق.
{إِلاَّ أن يأتين بفاحشةٍ مبيِّنة}، قيل: الزنا، فيخرجن لإقامة الحد، قاله الليثي والثعلبي، وقيل: سوء الكلام وإظهار الفحش مع الأصْهار، فتخرج ويسقط حقها من السكنى، وتلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب. قاله ابن عباس، ويؤيده: قراءة أُبي: {إلاَّ أن يفحشن عليكم}، وقيل: جميع المعاصي من القذف والسرقة وغير ذلك. قاله ابن عباس أيضاً. ومال إليه الطبري. وقيل: الخروج من بيتها خروجَ انتقال، متى فعلت ذلك سقط حقها. قاله ابن الفرس، وإلى هذا ذهب مالك في المرأة إذا نشزت في العدة، وقيل: هو النشوز قبل الطلاق، فإذا طلّقها بسبب نشوزها فلا سكنى على زوجها قاله قتادة.
{وتلك حدودُ الله} أي: تلك الأحكام المذكورة هي حدود الله التي عيّنها لعباده، {ومَن يَتَعَدَّ حدودَ الله} المذكورة، بأن يُخلّ بشيء منها، على أنَّ الإظهار في محل الإضمار لتهويل أمر التعدي، والإشعار بعلة الحكم، {فقد ظَلَمَ نفسه}؛ أضرَّ بها، إذ لعله يندم. والتفسير بتعريضها للعذاب يأباه قوله: {لا تدري لعل اللهَ يُحدِثُ بعد ذلك أمراً} فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية، وقد قالوا: إنَّ الأمر الذي يُحدثه اللهُ تعالى: هو أن ينقلب قلبه بُغضها إلى محبتها، أو: من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ويندم، فلابد أن يكون الظُلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعدِّيه، وهو الندم إن كان طلَّق ثلاثاً، فيمنع من الرجعة، أو: الحياء، إن كان إخراجها من المسكن بلا سبب، أو: فقد ظَلَمَ نفسَه بتعريضها للعذاب الشامل؛ الدنيوي والأخروي، حيث خالف ما أمره سيده. {لاتدري} أيها المخاطب {لعل اللهُ يُحِدثُ بعد ذلك أمراً} وهو الرجعة، والمعنى: أحصوا العِدَّة وامتثلوا ما أُمرتم به، لعل الله يُحدث الرجعة لنسائكم.
{فإذا بَلَغْنَ أجلَهن} أي: قاربن آخر العِدَّة {فأمْسِكُوهنَّ}؛ راجعوهن {بمعروفٍ} بحُسن معاشرة وإنفاقٍ لائق، {أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ} بإعطاء الصداق والإمتاع حين الطلاق، والوفاء بالشروط.
والمعنى: فأنتم بالخيار؛ إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتّقاء الضرر، وهو أن يُراجعها في آخر عدتها ثم يُطلٍّقها، تطويلاً لعِدتها وتعذيباً لها، {وأَشْهِدوا} عند الرجعة والمفارقة {ذَوَيْ عَدْلٍ منكم} من المسلمين، وهذا الإشهاد مندوب على المشهور لئلا يقع بينهما التجاحد. وفي قوله: {ذوي عدل} دلالة على أنهم ذكور، فلا تجوز شهادة النساء في النكاح ولا في الطلاق عند الجمهور. {وأقيموا الشهادةَ للهِ} أيها الشهود عند الحاجة إليها، خالصاً لوجهه تعالى. {ذلكم} إشارة إلى الحث على الإشهاد في الرجعة، أو: إلى جميع ما ذكر، {يُوعظ به مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر} إِذ هو المنتفِع به، والمقصود بتذكيره.
الإشارة: إذا طلقتم الدنيا وحظوظَ نفوسكم؛ فليكن ذلك إلى أجل معلوم، وهو الرسوخ والتمكين بعد الوصول، وأَحْصُوا العدّة: اضبطوا أيام سيركم لئلا تضيع في البطالة أو الفضول، واتقوا ما سوى ربكم أن تلتفتوا إليه، لا تُخرجوا نفوسكم من أشباحها بشِدة مجاهدتها، فإنها مَغرفة السر، ومطيّة السير، نَبَرُّ بها فيما تقوم بها من مآكل وملبس ونُخالف هواها، ولا يَخرجن، إي: ولا تتركوها أن تخرج من عش التربية قبل الترشيد، إلاّ أن تطغى وتفحش، فبالِغ في مجاهدتها بما يقارب موتها، وتلك حدود الله التي حَدّها للسائر، ومَن يتعدَّ شيئاً منها فقد ظلم نفسه، إمّا بتفريط أو إفراط، فصاحب التفريط لا يصل، وصاحب الإفراط لا يدوم، لا تدري أيها السائر لعل اللهَ يُحدث بعد ذلك انقياداً وتسهيلاً، فإذا بلغ أجل الوصول، وحل التمكين، فلا ميزان على النفس، إن شاء أمسك عليها إبقاء، وإن شاء غاب عنهما فناء، وأشهِدوا ذّوّيْ عدل منكم، وهم أهل الفن، فلا يخرج مِن ربقة المجاهدة وعش الإرادة، حتى يشهد له الشيخ أو أهل الفن. والله تعالى أعلم.
ثم حَضَّ على التقوى التي هي مجمع الخير، فقال: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.
يقول الحق جلّ جلاله: {ومَن يَتَّقِ اللهَ} بأن طلَّق للسُنَّة، ولم يُضار بالمعتدّة، ولم يُخرجها من مسكنها، واحتاط في الإشهاد، وغير ذلك، {يجعل له مخرجاً} مما عسى يقع في شأن الأزواج من الغموم والمضائق، ويُفرِّج عنه ما يعتريه من الكروب. رُوي عن ابن عباس أنه قال لمَن طَلَّق ثلاثاً: إنك لم تتق الله، فبانت منك امرأتك. والمختار: أنَّ الآية عامة، أي: ومَن يتق الله في أقواله وأفعاله وأحواله يجعل له مخرجاً من كرب الدنيا والأخرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها، فقال: «مخرجاً من شُبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة»
، قال ابن جزي: وهذا أي العموم أرجح من خمسة أوجه، الأول: حمل اللفظ على عمومه، فيدخل فيه الطلاق وغيره. والثاني: رُوي: أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أُسر ولده، وضُيِّق عليه رزقه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالتقوى، وقال له: «أَكْثِرْ من: لاحَول ولا قوة إلاّ بالله» فلم يلبث إلاَّ يسيراً، وانطلق ولده، ووسع عليه زرقه. والثالث: أنه رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأَعْلمُ آية لو أخذ الناسُ بها لكفتهُم {ومَن يتق الله يجعل له مخرجاً}» فما زال يكررها، انظر بقيته.
{ويَرْزُقه من حيثُ لا يحتسب} أي: من وجوه لاتخطر بباله ولا بحسبه، {ومَن يتوكل على الله} أي: يكل أمرَه إليه من غير تعلُّق بغير، ولا تدبير نفس، {فهو حَسْبُه}؛ كافيه في جميع أموره، {إِنَّ اللهَ بالغُ أَمْرِه}، بالإضافة في قراءة حفص، أي: منفذاً أمره، وبالتنوين والنصب عند غيره، أي: مبلغ ما يريد، لا يفوته مُراد، ولا يعجزه مطلوب. {قد جعل اللهُ لكل شيءٍ قَدْراً}؛ تقديراً، أو توقيتاً، أو مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، وهذا حث على التوكل وترغيب فيه، لأنَّ العبد إذا عَلِمَ أنَّ الأمور كلها بيد الله، من الرزق وغيره وأنَّ لها وقتاً محدوداً لا يُجاوزه، توكل عليه، وانجمع بكليته عليه، ولم يبقَ له إلاّ التسليم للقدَر السابق. قال ابن عطية: في الآية حض على التوكل، أي: لابد من نفوذ أمر الله تعالى، توكلتَ أيها المرء أم لم تتوكل، فإنْ توكلتَ على الله كفاك، وتعجّلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وَكَلَك إلى جحدك وتسخُّطك، وأمره نافذ في الوجهين. اهـ.
الإشارة: ومَن يتق الله التقوى الكاملة، يجعل له من كمل مُشْكل وشُبهة ومتشابه مَخرجاً، فيَنحلّ له كل ما أشكل على الناس في أمر الدين والدنيا، ويرزقه من العلوم والأسرار والمعارف، ما لا يخطر على بال، من حيث لا يحتسب، من غير تعلُّم ولا مدارسة، وقال القشيري: إذا صَدَقَ العبدُ في تقواه أخرجه من أشغاله، كالشعرة من العجين، لا يتعلق بها شيء، يضرب على المتقِي سرادقات عنايته، ويُدخله في كنف الإيواء ويصرف الأشغال، عن قلبه، ويُخرجه عن تدبيره، ويُجرده عن كل شغل، ويكفيه كل أمر، وينقله إلى شهود قضاء تقديره. اهـ.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في هذه التقوى: أن تكون ظاهرة وباطنة، ظاهرة من المعاصي، وباطنة من المساوي والدعاوى، أمّا مَن طهَّر ظاهره من المعاصي، وسَدّ الأُفق بالدعاوى وإضافة التدبير والاختيار لنفسه، فلا يقوم خيره بِشَرِّه، أي: فلا يدخل في الآية. ثم قال: إلاّ مَن وَطَّن نفسه على الأرياح إلى أيّ وجهة تقلب، أي: دار مع رياح الأقدار حيث دارت، ولم يسكن إلى شيء، وكان ممن قال اللهُ فيه: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} [السجدة: 16]، أتراه منع جنوبَهم من مضاجع النوم، وترك قلوبهم مضجعة وساكنة لغيره، بل رفع قلوبهم عن كل شيء، ولا يضاجِعُون أسرارهم شيئاً، فافهم هذا المعنى، تتجافى جُنوبهم عن مضاجعة الاختيار ومنازعة الأقدار، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، فالخوف قَطَعَهم عن غيره، وبالشوق إليه أطمعهم فيه، ومما رزقناهنم ينفقون. اهـ. مختصراً.
وقوله تعالى: {ويَرْزُقه من حيثُ لا يحتسبُ} قال في الحاشية الفاسية: أي: يرزقه المقدَّر في الأزل من حيث لا مشقة عليه في وصوله إليه، فيأكل ويلبس من غير انتظار، ولا استشراف نفس، ولا تعب، فيخرج له من الغيب بالبديهة ما يكفيه عن السؤال، ومَن عَرَف اللهَ عَرَفه بكمال قدرته وإحاطة علمه بكل ذرة، فيلقي زمام الاختيار إليه، فيكفيه كل مؤنه في الدنيا والآخرة، وهو السميع العليم، وقد قال سهل: التقوى: التبري من الحول والقوة. اهـ.
وقوله تعالى: {ومَن يتوكل على الله فهو حَسْبه} قال القشيري: فالله حاسبه، أي: كافيه. {إِنَّ اللهَ بالغُ أَمْرِه}، إذا سَبَقَ له شيءٌ من التقدير، فلا محالةَ يكون، وفي التوكل لا يتغير المقدور ولا يتأخر، ولكنَّ المتوكل تكون ثقته بقلبه، غير كارهٍ لما يرد عليه، وهذا من أجَلِّ النعم. ثم قال في موضع آخر: التوكل: شهود نَفْسِك خارجاً من المِنَّة، جارياً عليك أحكام التقدير من غير تدبيرٍ منك ولا اطلاع لك على حُكمه، فسبيلُ العبد: الخمودُ والرضا دونَ استعلام الأمر. وفي الخبر: «أعوذ بالله من علم لا ينفع» ومن جملته: أن يكون قد وقع لك شُغْلٌ، واستقبلك مُهمٌ، وقد اشتبه عليك وجهُ التدبير فيه، وتكون مُطالباً بالسُكون، فيطلبك العلم، وتتمنى أن تعرف متى يصلح هذا الأمر، وبأي سببٍ؟ وعلى أي وجهٍ؟ وعلى يد مَن؟ فهذا كله تخليطٌ، وغير مُسلَّم شيءٌ من ذلك للأكابر، وهو مِن العلم الذي يجب التعوُّذ منه، فيجب عليك السكون والرضا، فإذا جاء وقتُ الكَشْف، فسترى صورة الحال وتعرفه، وربما ينظر العبدُ في هذه الحالة تعريفاً في المنام، أوينظر في فال من الجامع اي: ككتاب وشَبهه أو يرجو بيان حاله، بأن يجري على لسان مستنطق في الوقت، كلُّ هذا تركُ للأدب، واللهُ لا يَرْضى بذلك من أوليائه، بل الواجبُ السكون. اهـ.
وقال في القوت: والحسب إلى الحسيب يجعلُه ما شاء كيف شاء، فقد قيل: {فهو حَسْبُه} أي: التوكل حَسْبُه من سائر المقامات، ثم قال معرباً باللطافة، مسلياً للجماعة: {إِنَّ الله بالغ أمره} أي: منفذ حكمه فيمن توكل، ومَن لا يتوكل، إلاَّ أنّ مَن توكّل عليه يكون الله عزّ وجل حَسبه، أي: يكفيه أيضاً مُهِم الدنيا والآخرة، ولا يزيد مَن لم يتوكل عليه جناح بعوضة في قسْمه، كما لا ينقص عليه ذرة من رزقه، لكن يزيد مَن توكل عليه هُدىً إلى هداه، ويرفعه مقاماً في اليقين قدر تقواه، ويُعزّه بعزّه، وينقص مَن لم يتوكل عليه من اليقين، ويزيده من التعب والهم، ويُشتت قلبَه، ويشغل فكرَه، فالمتوكل عليه يُجب له تكفير السيئات، ويُلقي عليه رضاه ومحبته في المقامات، أمّا الكفاية فقد ضَمِنها تعالى لِمن صدق في توكله عليه، والوقاية قد وهبها لمَن أحسن تفويضه إليه، إلاّ أنّ الاختيار وعلم الاستتار إليه في الكفاية والوقاية، يجعل ذلك ما يشاء كيف شاء، وأين شاء، من أمور الدنيا وأمور الآخرة، من حيث يعلم العبد، ومن حيث لا يعلم؛ لأنَّ العبد تجري عليه الأحكام في الدارين، وفقير محتاج إلى الرحمة واللطف في المكانين. اهـ.