فصل: تفسير الآيات (11- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 17):

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}
قال مجاهد وغيره: ودخل كلام بعضهم في بعض. {المخلفون من الأعراب}: هم جهينة، ومزينة، وغفار، وأشجع، والديل، وأسلم. استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً، ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت؛ وأحرم هو صلى الله عليه وسلم، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حرباً، ورأى أولئك الأعراب أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل والمجاورين بمكة، وهو الأحابيش؛ ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم، فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتخلفوا وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله عز وجل في هذه الآية، وأعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، فكان كذلك.
{شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا}: وهذا اعتلال منهم عن تخلفهم، أي لم يكن لهم من يقوم بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم، وبدؤا بذكر الأموال، لأن بها قوام العيش؛ وعطفوا الأهل، لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال. وقرئ: شغلتنا، بتشديد الغين، حكاه الكسائي، وهي قراءة إبراهيم بن نوح بن باذان، عن قتيبة. ولما علموا أن ذلك التخلف عن الرسول كان معصية، سألوا أن يستغفر لهم. {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم}: الظاهر أنه راجع إلى الجملتين المقولتين من الشغل وطلب الاستغفار، لأن قولهم: شغلتنا، كذب؛ وطلب الاستغفار: خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون. وقال الطبري: هو راجع إلى قولهم: فاستغفر لنا، يريد أنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم.
{قل فمن يملك}: أي من يمنعكم من قضاء الله؟ {إن أراد بكم ضراً}: من قتل أو هزيمة، {أو أراد بكم نفعاً}، من ظفر وغنيمة؟ أي هو تعالى المتصرف فيكم، وليس حفظكم أموالكم وأهليكم بمانع من ضياعها إذا أراده الله تعالى. وقرأ الجمهور: ضراً، بفتح الضاد؛ والإخوان: بضمها، وهما لغتان. ثم بين تعالى لهم العلة في تخلفهم، وهي ظنهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يرجعون إلى أهليهم. وتقدم الكلام على أهل، وكيف جمع بالواو والنون في قوله: {ما تطعمون أهليكم} وقرأ عبد الله: إلى أهلهم، بغير ياء؛ وزين، قراءة الجمهور مبنياً للمفعول، والفاعل هو الله تعالى. وقيل غيره ممن نسب إليه التزيين مجازاً. وقرئ: وزين مبنياً للفاعل. {وظننتم ظن السوء}: احتمل أن يكون هو الظن السابق، وهو ظنهم أن لا ينقلبوا، ويكون قد ساءهم ذلك الظن وأحزنهم حيث أخلف ظنهم. ويحتمل أن يكون غيره لأجل العطف، أي ظننتم أنه تعالى يخلف وعده في نصر دينه وإعزاز رسوله صلى الله عليه وسلم.
{بوراً}: هلكى، والظاهر أنه مصدر كالهلك، ولذلك وصف به المفرد المذكر، كقول ابن الزبعري:
يا رسول المليك إن لساني ** راتق ما فتقت إذ أنا بور

والمؤنث، حكى أبو عبيدة: امرأة بور، والمثنى والمجموع. وقيل: يجوز أن يكون جمع بائر، كحائل، وحول هذا في المعتل، وباذل وبذل في الصحيح، وفسر بوراً: بفاسدين هلكى. وقال ابن بحر: أشرار. واحتمل وكنتم، أي يكون المعنى: وصرتم بذلك الظن، وأن يكون وكنتم على بابها، أي وكنتم في الأصل قوماً فاسدين، أي الهلاك سابق لكم على ذلك الظن. ولما أخبر تعالى أنهم قوم بور، ذكر ما يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال: {ومن لم يؤمن بالله ورسوله}، فهو كافر جزاؤه السعير. ولما كانوا ليسوا مجاهدين بالكفر، ولذلك اعتذروا وطلبوا الاستغفار، مزج وعيدهم وتوبيخهم ببعض الإمهال والترجئة. وقال الزمخشري: {ولله ملك السموات والأرض}، يدبره تدبير قادر حكيم، فيغفر ويعذب بمشيئته، ومشيئته تابعة لحكمته، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر. {وكان الله غفوراً رحيماً}، رحمته سابقة لرحمته، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر بالتوبة. انتهى. وهو على مذهب الاعتزال.
{سيقول المخلفون}: روي أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم يغزو خيبر، ووعده بفتحها، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسيره إلى خيبر، وهم عدو مستضعف، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا من الغنيمة، وكان كذلك. {يريدون أن يبدلوا كلام الله}: معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئاً، قاله مجاهد وقتادة، وعليه عامة أهل التأويل. وقال ابن زيد: {كلام الله}: قوله تعالى: {قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً} وهذا لا يصح، لأن هذه الآية نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك في آخر عمره. وهذه السورة نزلت عام الحديبية، وأيضاً فقد غزت مزينة وجهينة بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام، وفضلهم بعد على تميم وغطفان وغيرهم من العرب. وقرأ الجمهور: كلام الله، بألف؛ والإخوان: كلم الله، جمع كلمة، وأمره تعالى أن يقول لهم: {لن تتبعونا}، وأتى بصيغة لن، وهي للمبالغة في النفي، أي لا يتم لكم ذلك، إذ قد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهل الحديبية فقط. {كذلكم قال الله من قبل}: يريد وعده قبل اختصاصهم بها. {بل تحسدوننا}: أي يعز عليكم أن نصيب مغنماً معكم، وذلك على سبيل الحسد أن نقاسمكم فيما تغنمون. وقرأ أبو حيوة: بكسر السين، ثم رد عليهم تعالى كلامهم هذا فقال: {بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً} من أمور الدنيا، وظاهره ليس لهم فكر إلا فيها، كقوله: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا} والإضراب الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد.
والثاني، إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما هو أطم منه، وهو الجهل وقلة الفقه.
{قل للمخلفين من الأعراب}: أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام، ولو لم يكن الأمر كذلك، لم يكونوا أهلاً لذلك الأمر. وأبهم تعالى في قوله: {إلى قوم إولي بأس شديد}. فقال عكرمة، وابن جبير، وقتادة: هم هوازن ومن حارب الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين. وقال كعب: الروم الذين خرج إليهم عام تبوك، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة. وقال الزهري، والكلبي: أهل الردة، وبنو حنيفة باليمامة. وعن رافع بن خديج: إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى، ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم أريدوا بها. وقال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى: هم الفرس. وقال الحسن: فارس والروم. وقال أبو هريرة: قوم لم يأتوا بعد. وظاهر الآية يرد هذا القول. والذي أقوله: إن هذه الأقوال تمثيلات من قائليها، لا أن المعنى بذلك ما ذكروا، بل أخبر بذلك مبهماً دلالة على قوة الإسلام وانتشار دعوته، وكذا وقع حسن إسلام تلك الطوائف، وقاتلوا أهل الردة زمان أبي بكر، وكانوا في فتوح البلاد أيام عمر وأيام غيره من الخلفاء.
والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية، إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام. ومذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى ورضي عنه: أن الجزية لا تقبل من مشركي العرب، ولا من المرتدين، وليس إلا الإسلام أو القتل؛ وتقبل ممن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس. ومذهب الشافعي، رحمه الله تعالى: لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، دون مشركي العجم والعرب. وقال الزمخشري: وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد وفاته. انتهى. وهذا ليس بصحيح، فقد حضر كثير منهم مع جعفر في موتة، وحضروا حرب هوازن معر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضروا معه في سفرة تبوك. ولا يتم قول الزمخشري: إلا على قول من عين أنهم أهل الردة. وقرأ الجمهور: أو يسلمون، مرفوعاً؛ وأبي، وزيد بن علي: بحذف النون منصوباً بإضمار أن في قول الجمهور من البصريين غير الجرمي، وبها في قول الجرمي والكسائي، وبالخلاف في قول الفراء وبعض الكوفيين. فعلى قول النصب بإضمار أن هو عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم، أي يكون قتال أو إسلام، أي أحد هذين، ومثله في النصب قول امرئ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما ** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

والرفع على العطف على تقاتلونهم، أو على القطع، أي أو هم يسلمون دون قتال. {فإن تطيعوا}: أي فيما تدعون إليه. {كما توليتم من قبل}: أي في زمان الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في زمان الحديبية. {يعذبكم}: يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة. {ليس على الأعمى حرج}: نفي الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو، ومع ارتفاع الحرج، فجائز لهم الغزو، وأجرهم فيه مضاعف، والأعرج أحرى بالصبر وأن لا يفر. وقد غزا ابن أم مكتوم، وكان أعمى، في بعض حروب القادسية، وكان رضي الله عنه يمسك الراية، فلو حضر المسلمون، فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو. وقرأ الجمهور: يدخله ويعذبه، بالياء؛ والحسن، وقتادة، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة، وابن عامر، ونافع: بالنون

.تفسير الآيات (18- 26):

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}
لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه. والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم، ولذا سميت: بيعة الرضوان؛ وكانوا فيما روي ألفاً وخمسمائة وعشرين. وقال ابن أبي أوفى: وثلاثمائة.
وأصل هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية، بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب، يعلمهم أنه جاء معتمراً، لا يريد قتالاً. فلما أتاهم وكلمهم، عقروا جمله وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد بعث عمر. فقال: قد علمت فظاظتي، وهم يبغضوني، وليس هناك من بني عدي من يحميني، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني وأحب إليهم، عثمان بن عفان. فبعثه، فأخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته. وكان أبان بن سعيد بن العاصي حين لقيه، نزل عن دابته وحمله عليها وأجاره، فقالت له قريش: إن شئت فطف بالبيت، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه. فقال: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال، فصرخ صارخ من العسكر: قتل عثمان، فحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقالو: لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم. فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعة البيعة، فنزل روح القدس، فبايعوا كلهم إلا الجد بن قيس المنافق. وقال الشعبي: أول من بايع أبو سنان بن وهب الأسدي، والعامل في إذ رضي. والرضا على هذا بمعنى إظهار النعم عليهم، فهو صفة فعل، لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت، يحتمل أن يكون معمولاً ليبايعونك، أو حالاً من المفعول، لأنه صلى الله عليه وسلم كان تحتها جالساً في أصلها. قال عبد الله بن المغفل: وكنت قائماً على رأسه، وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه، فرفعت الغصن عن ظهره. بايعوه على الموت دونه، وعلى أن لا يفروا، فقال لهم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» وكانت الشجرة سمرة. قال بكير بن الأشجع: يوم فتح مكة. قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة يصلون عندها، فبلغ عمر، فأمر بقطعها. وكانت هذه البيعة سنة ست من الهجرة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار من شهد بيعة الرضوان».
{فعلم ما في قلوبهم}، قال قتادة، وابن جريج: من الرضا بالبيعة أن لا يفروا. وقال الفراء: من الصدق والوفاء. وقال الطبري، ومنذر بن سعيد: من الإيمان وصحته، والحب في الدين والحرص عليه.
وقيل: من الهم والانصراف عن المشركين، والأنفة من ذلك، على نحو ما خاطب به عمر وغيره؛ وهذا قول حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض بالفتح القريب. والسكينة تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى، وعلى الأقوال السابقة قيل هذا القول، لا يظهر احتياج إلى إنزال السكينة إلا أن يجازي بالسكينة والفتح القريب والمغانم. وقال مقاتل: فعلم ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت، {فأنزل السكينة عليهم} حتى بايعوا. قال ابن عطية: وهذا فيه مذمة للصحابة، رضي الله تعالى عنهم. انتهى.
{وأثابهم فتحاً قريباً} قال قتادة، وابن أبي ليلى: فتح خيبر، وكان عقب انصرافهم من مكة. وقال الحسن: فتح هجر، وهو أجل فتح اتسعوا بثمرها زمناً طويلاً. وقيل: فتح مكة والقرب أمر نسبي، لكن فتح خيبر كان أقرب. وقرأ الحسن، ونوح القارئ: وآتاهم، أي أعطاهم؛ والجمهور: وأثابهم من الثواب. {ومغانم كثيرة}: أي مغانم خيبر، وكانت أرضاً: ذات عقار وأموال، فقسمها عليهم. وقيل: مغانم هجر. وقيل: مغانم فارس والروم. وقرأ الجمهور: يأخذونها بالياء على الغيبة في وأثابهم، وما قبله من ضمير الغيبة. وقرأ الأعمش، وطلحة، ورويس عن يعقوب، ودلبة عن يونس عن ورش، وأبو دحية، وسقلاب عن نافع، والأنطاكي عن أبي جعفر: بالتاء على الخطاب. كما جاء بعد {وعدكم الله مغانم كثيرة} بالخطاب. وهذه المغانم الموعود بها هي المغانم التي كانت بعد هذه، وتكون إلى يوم القيامة، قاله ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين.
ولقد اتسع نطاق الإسلام، وفتح المسلمون فتوحاً لا تحصى، وغنموا مغانم لا تعد، وذلك في شرق البلاد وغربها، حتى في بلاد الهند، وفي بلاد السودان في عصرنا هذا. وقدم علينا حاجاً أحد ملوك غانة من بلاد التكرور، وذكر عنه أنه استفتح أزيد من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان، وأسلموا، وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه. وقيل: الخطاب لأهل البيعة، وأنهم سيغنمون مغانم كثيرة. وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرة مغانم خيبر؛ {فعجل لكم هذه}: الإشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم وابنه. وقال مجاهد: مغانم خيبر.
{وكف أيدي الناس عنكم}: أي أهل مكة بالصلح. وقال ابن عباس عيينة بن حصن الفزاري، وعوف بن مالك النضري، ومن كان معهم: إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر، والرسول عليه الصلاة والسلام محاصر لهم، فجعل الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين. وقال ابن عباس أيضاً: أسد وغطفان حلفاء خيبر. وقال الطبري: كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وإلى خيبر. {ولتكون}: أي هذه الكفة آية للمؤمنين، وعلامة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم.
وقيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة، فيكون الضمير في ولتكون عائداً على هذه، وهي مغانم خيبر، والواو في ولتكون زائدة عند الكوفيين وعاطفة على محذوف عند غيرهم، أي ليشكروه ولتكون، أو وعد فعجل وكف لينفعكم بها ولتكون، أو يتأخر، أو يقدر ما يتعلق به متأخراً، أي فعل ذلك. {ويهديكم صراطاً مستقيماً}: أي طريق التوكل وتفويض الأمور إليه. وقيل: بصيرة واتقاناً.
{وأخرى لم تقدروا عليها}، قال ابن عباس، والحسن، ومقاتل: بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون. وقال الضحاك، وابن زيد، وابن اسحاق: خيبر. وقال قتادة، والحسن: مكة، وهذا القول يتسق معه المعنى ويتأيد. وفي قوله: {لم تقدروا عليها} دلالة على تقدم محاولة لها، وفوات درك المطلوب في الحال، كما كان في مكة. وقال الزمخشري: هي مغانم هوازن في غزوة حنين. وقال: {لم تقدروا عليها}، لما كان فيها من الجولة، وجوز الزمخشري في: {وأخرى}، أن تكون مجرورة بإضمار رب، وهذا فيه غرابة، لأن رب لم تأت في القرآن جارة، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب، فكيف يؤتى بها مضمرة؟ وإنما يظهر أن {وأخرى} مرفوع بالابتداء، فقد وصفت بالجملة بعدها، وقد أحاط هو الخبر. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمضمر يفسره معنى {قد أحاط الله بها}: أي وقضى الله أخرى. وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين ومعنى {قد أحاط الله بها} بالقدرة والقهر لأهلها، أي قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.
{ولو قاتلكم الذين كفروا}: هذا ينبني على الخلاف في قوله تعالى: {وكف أيدي الناس عنكم}، أهم مشركو مكة، أو ناصروا أهل خيبر، أو اليهود؟ {لولوا الأدبار}: أي لغلبوا وانهزموا. {سنة الله}: في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله، أي سن الله عليه أنبياءه سنة، وهو قوله: {لأغلبن أنا ورسلي} {وهو الذي كف أيديهم}: أي قضى بينكم المكافة والمحاجزة، بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة. وروي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها، وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أحس بهم المسلمون، بعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد، وسماه حينئذ سيف الله، في جملة من الناس، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة، وأسروا منهم جملة، وسيقوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنّ عليهم وأطلقهم. وقال قتادة: كان ذلك بالحديبية عند معسكره، وهو ببطن مكة. وعن أنس: هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم مسلحين يريدون غرته، فأخذناهم فاستحياهم. وفي حديث عبد الله بن معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فأخذ الله أبصارهم، فقال لهم: «هل جئتم في عهد؟ وهل جعل لكم أحد أماناً»؟ قالوا: اللهم لا، فخلي سبيلهم
وقال الزمخشري كان يعني هذا الكف يوم الفتح، وبه استشهد أبو حنيفة، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً. وقيل: كان ذلك في غزوة الحديبية، لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة. وعن ابن عباس: أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. انتهى. وقرأ الجمهور: بما تعملون، على الخطاب؛ وأبو عمرو: بالياء، وهو تهديد للكفار.
{هم الذين كفروا}: يعني أهل مكة. قال ابن خالوية: يقال الهدي والهدى والهداء، ثلاث لغات. انتهى. وقرأ الجمهور: الهدي، بسكون الدال، وهي لغة قريش؛ وابن هرمز، والحسن، وعصمة عن عاصم، واللؤلؤي، وخارجة عن أبي عمرو: والهدي، بكسر الدال وتشديد الياء، وهما لغتان، وهو معطوف على الضمير في صدّوكم؛ ومعكوفاً: حال، أي محبوساً. عكفت الرجل عن حاجته: حبسته عنها. وأنكر أبو عليّ تعدية عكف، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما. وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم، أو من جهة المسلمين لتردّدهم ونظرهم في أمرهم. وقرأ الجعفي، عن أبي عمرو: والهدي، بالجر معطوفاً على المسجد الحرام: أي وعن نحر الهدي. وقرأ: بالرفع على إضمار وصد الهدي، وكان خرج عليه ومعه مائة بدنة، قاله مقاتل. وقيل: بسبعين، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت البدنة عن عشرة، قاله المسور بن مخرمة وأبيّ بن الحكم.
{أن يبلغ محله}، قال الشافعي: الحرم، وبه استدل أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم، لا حيث أحصر. وقال الفراء: حيث يحل نحره، و{أن يبلغ}: يحتمل أن يتعلق بالصد، أي وصدوا الهدى، وذلك على أن يكون بدل اشتمال، أي وصدوا بلوغ الهدي محله، أو على أنه مفعول من أجله، أي كراهة أن يبلغ محله. ويحتمل أن يتعلق بمعكوفاً، أي محبوساً لأجل أن يبلغ محله، فيكون مفعولاً من أجله، ويكون الحبس من المسلمين. أو محبوساً عن أن يبلغ محله، فيكون الحبس من المشركين، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين، غير متميزين عنهم، ولا معروفي الأماكن؛ فقال تعالى: ولولا كراهة أن يهلكوا أناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، ما كف أيديكم عنهم؛ وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون: {لو تزيلوا}، كالتكرير للولا رجال مؤمنون، لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون: {لعذبنا}، هو الجواب. انتهى. وقوله: لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح، لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية. فالمعنى في الأولى: ولولا وطء قوم مؤمنين، والمعنى في الثانية: لو تميزوا من الكفار؛ وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة.
و{أن تطؤهم}: بدل اشتمال من رجال وما بعده. وقيل: بدل من الضمير في {تعلموهم}، أي لم تعلموا وطأتهم، أي أنه وطء مؤمنين. وهذا فيه بعد. والوطء: الدوس، وعبر به عن الإهلاك بالسيف وغيره. قال الشاعر:
ووطئتنا وطأ على حنق ** وطء المقيد ثابت الهرم

وفي الحديث: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» و{لم تعلموهم}: صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر؛ والمعنى: لم تعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون. وقال ابن زيد: المعرة: المأثم. وقال ابن إسحاق: الدية. وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب. وقال الطبري: هي الكفارة. وقال القاضي منذر بن سعيد: المعرة: أن يعنفهم الكفار، ويقولون قتلوا أهل دينهم. وقيل: الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن. ولفق الزمخشري من هذه الأقوال سؤالاً وجواباً على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال: فإن قلت: أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون؟ قلت: يصيبهم وجوب الدية والكفارة، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا من غير تمييز، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. انتهى.
{بغير علم}: أخبار عن الصحابة وعن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والامتناع من التعدى حتى أنهم لو أصابوا من ذلك أحداً لكان من غير قصد، كقول النملة عن جند سليمان: {وهم لا يشعرون} وبغير علم متعلق بأن تطؤهم. وقيل: متعلق بقوله: {فتصيبكم منهم معرّة} من الذين بعدكم ممن يعتب عليكم. وقرأ الجمهور: لو تزيلوا؛ وابن أبي عبلة، وابن مقسم، وأبو حيوة، وابن عون: لو تزايلوا، على وزن تفاعلوا، ليدخل متعلق بمحذوف دل عليه المعنى، أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة، وانتفاء العذاب. {ليدخل الله في رحمته من يشاء}: وهذا المحذوف هو مفهوم من جواب لو، ومعنى تزيلوا: لو ذهبوا عن مكة، أي لو تزيل المؤمنون من الكفار وتفرقوا منهم، ويجوز أن يكون الضمير للمؤمنين والكفار، أي لو افترق بعضهم من بعض. {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية}: إذ معمول لعذبنا، أو لو صدوكم، أو لا ذكر مضمرة. والحمية: الأنفة، يقال: حميت عن كذا حمية، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله، قال المتلمس:
إلا أنني منهم وعرضي عرضهم ** كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما

وقال الزهري: حميتهم: أنفتهم عن الإقرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو. وقال ابن بحر: حميتهم: عصبيتهم لآلهتهم، والأنفة: أن يعبدوا وغيرها. وقيل: قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبداً؛ وكانت حمية جاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها، وإنما ذلك محض تعصب لأنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ** غوين وإن ترشد غزية أرشد

وحمية: بدل من الحمية والسكينة الوقار والاطمئنان، فتوقروا وحلموا؛ و{كلمة التقوى}: لا إله إلا الله. روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال علي، وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن ميمون، وقتادة، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وسلمة بن كهيل، وعبيد بن عمير، وطلحة بن مصرف، والربيع، والسدي، وابن زيد. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضاً: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وقال علي بن أبي طالب، وابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: لا إله إلا الله، والله أكبر. وقال أبو هريرة، وعطاء الخراساني: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأضيفت الكلمة إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها. وقيل: هو على حذف مضاف، أي كلمة أهل التقوى. وقال المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم: كلمة التقوى هنا هي بسم الله الرحمن الرحيم، وهي التي أباها كفار قريش، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أحق بها. وقيل: قولهم سمعاً وطاعة. والظاهر أن الضمير في: {وكانوا} عائد على المؤمنين، والمفضل عليهم محذوف، أي {أحق بها} من كفار مكة، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقيل: من اليهود والنصارى، وهذه الأحقية هي في الدنيا. وقيل: أحق بها في علم الله تعالى. وقيل: {وأهلها} في الآخرة بالثواب. وقيل: الضمير في وكانوا عائد على كفار مكة لأنهم أهل حرم الله، ومنهم رسوله لولا ما سلبوا من التوفيق.
{وكان الله بكل شيء عليماً}، إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية، إذ كان سبباً لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم، وعلو كلمة الإسلام؛ وكانوا عام الحديبية ألفاً وأربعمائة، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف.
وقال أبو عبد الله الرازي: في هذه الآية لطائف معنوية، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن. باين بين الفاعلين، إذ فاعل جعل هو الكفار، وفاعل أنزل هو الله تعالى؛ وبين المفعولين، إذ تلك حمية، وهذه سكينة؛ وبين الإضافتين، أضاف الحمية إلى الجاهلية، وأضاف السكينة إلى الله تعالى. وبين الفعل جعل وأنزل؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها. والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحاً بالإضافة إلى الجاهلية، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسناً بإضافتها إلى الله تعالى.
والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة، تقول: أكرمني فأكرمته، فدلت على المجازاة للمقابلة، ولذلك جعل فأنزل. ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أجاب أولاً إلى الصلح، وكان المؤمنون عازمين على القتال، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسم الله، قال تعالى: {على رسوله}. ولما سكن هو صلى الله عليه وسلم للصلح، سكن المؤمنون، فقال: {وعلى المؤمنين}. ولما كان المؤمنون عند الله تعالى، ألزموا تلك الكلمة، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وفيه تلخيص، وهو كلام حسن.