الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخْرِجُونه، وهُم العُلَماء عَلِمُوا ما يَنْبَغِي أنْ يُكْتَم، وما يَنْبَغِي أن يُفْشَى، والاسْتِنْبَاط في اللُّغَةِ: الاستِخْراج، وكذا «الإنباط» يقال: استَنْبَطَ الفَقِيهُ: إذا استَخْرَجَ الفِقْهَ البَاطِنَ باجْتِهَادِهِ وفهمه، وأصله من النّبط وهو الماءُ الذي يَخْرج من البَئْرِ أوّلَ حَفْرها قال: [الطويل] ويقال: نَبَطَ المَاءُ يَنْبطُ بفتحِ البَاءِ وضمها.والنبط أيضًا: جِيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يستخرجون المياه والنبات. ويقال في الرَّجُل الذي يكُونَ بعيد العِزِّ والمنعة: «ما يجِدُ عَدُوُّه لَهُ نَبَطًا». قال كَعْبٌ: [الطويل] و{منهم} حَالٌ: إمَّا من الَّذِين، أو من الضَّمير في {يَسْتَنْبِطُونه} فيتعلق بمَحْذُوفٍ.وقرأ أبو السَّمال: {لَعَلْمه} بسُكُون اللام، قال ابن عَطِيَّة: هو كتَسْكِين {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] وليس مِثْله؛ لأنَّ تسْكِين فعل بكَسْر العين مَقِيسٌ، وتسكينَ مَفْتُوحها شاذٌّ؛ ومثلُ تسكين {لَعَلْمَهُ} قوله: [الطويل] أي: دَبِرت، فِسَكَّن.قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلًا}قال أبو العَباس المُقْرِئ: وَرَدَت الرَّحْمَة في القُرْآن عَلَى سَبْعَة أوجه:الأوّل: القُرْآن، قال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أراد بالفَضْلِ الإسْلام، وبالرَّحْمَة القُرْآن.الثاني: بمعنى الإسْلام؛ قال تعالى: {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 31] أي: في الإسلام ومثله {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8] أي: في دين الإسلام.الثالث: بمعنى الجنة؛ قال تعالى: {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} [العنكبوت: 23] أي: من جَنَّتِي.الرَّابع: المَطَر؛ قال تعالى: {يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57، النمل: 63].الخامس: النِّعمة؛ قال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.السادس: النبوة؛ قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32]، أي: النُّبُوَّة.السابع: الرِّزْق؛ قال تعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2]: من الرِّزْقِ؛ ومثله {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء: 28] أي: رِزْقًا.قوله: {إلا قليلًا} ذكر المفسِّرُونَ فيها عشرة أوجه:الأول: قال بعضهم: إنه مُسْتَثْنَى من فَاعِل {اتبعتم} أي: لاتَّبعتم الشيطان إلا قليلًا منكم، فإنه لم يتَّبع الشَّيْطَان، على تقدِير كَوْن فَضْل الله لم يأته، ويكونُ أرادَ بفضل الله الإسلام وإرسَالَ محمَّد صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} كلام تامٌّ، وذلك القَلِيلُ؛ كقِسٍّ بن سَاعِدة الإيَادِي، وزَيْد بن عَمْرو بن نُفَيْل، وورقة بن نوفل، وجماعة سِوَاهم مِمَّن كان على دِين المَسِيحِ قَبل بَعْثَةِ الرسول.وقال أبو مُسْلم: المراد بِفَضْل الله ورحمته في هذه الآية: هو نُصْرتهُ ومعُونتهُ اللَّذان تمنَّاهُما المُنَافِقُون؛ بقولهم: {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73] بيَّن تعالى أنّه لولا حُصُول النَّصْر والظّفَرِ على سبيل التَّتَابُع، لاتَّبَعْتُم الشَّيْطَان وتركتم الدين إلاَّ قليلًا مِنْكُم، وهم أهْل البَصَائِر النَّافِذة، والنِّيَّات القويَّة، والعَزَائم المُتَمكِّنَةِ من أفَاضِل المُؤمِنِين، الذين يَعْلَمُون أنه لَيْس من شَرْطِ كونه حَقًّا هو الدَّوْلَة في الدُّنْيَا، فلأجل تَوَاتُر الفَتْح والظَّفر في الدُّنْيَا يدل على كَوْنه حَقًا؛ ولأجل تواتر الهَزِيمَة والانكِسَار يدلُّ على كونه بَاطِلًا، بل الأمْر في كونه حَقًا وباطلًا على الدَّلِيل، وهو أحْسَن الوُجُوه.وقيل: المُرَادُ مَنْ مَنْ لم يَبْلغ التكْلِيف، وعلى ذها التَّأويل قيل: فالاستثْنَاء مُنْقَطِع؛ لأن المُسْتَثْنَى لم يَدْخُل تحت الخِطَاب، وفيه نظر يظهر في الوَجْهِ العَاشِر.الثاني: أنه مُسْتَثْنى من فَاعِل {عَلِمه} أي: لعلمه المُسْتَنْبِطُون منهم إلا قَلِيلًا.قال الفرَّاء والمبرد: وأما القَوْل بأنَّه مستَثْنى من فاعل {أذاعوا} أوْلى من هَذَا؛ لأن ما يُعْلَم بالاسْتِنْبَاطِ؛ فالأقلُّ يعلمُه والأكْثَر يجهله، وصرف الاسْتشثْنَاء إلى المسْتَنْبِطِين يَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِك.قال الزَّجَّاج: هذا غَلَطٌ؛ لأنه لَيْسَ المراد من هَذَا الاستِثْنَاء شيئًا يَسْتَخْرِجُه بنظر دَقيق وفكْرٍ غَمِضٍ، إنما هو اسْتِنْبَاط خَبَر، وإذا كَانَ كَذَلِك فالأكثرون يَعْرِفُونه إنَّما البالغ في البَلاَدة والجَهَالة هُو الَّذي لا يَعْرِفُه، ويمكن أن يُقَال: كلام الزَّجَّاج إنما يَصِحُّ لو حَمَلْنا الاسْتِنْبَاطَ على مُجَرَّد تعرُّف الأخْبَارِ والأرَاجِيف، أمَّا إذا حملناه على الاسْتِنْبَاطِ في جَميع الأحْكَام، كان الحَقُّ ما ذكره الفَرَّاء والمُبرِّد.الرابع: أنه مُسْتَثْنَى من فاعل {لوجدوا} أي: لوجدوا فيما هَو من عِنْد غير الله التناقض إلا قليلًا مِنْهُم، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النَّظَرَ، فيظنُّ البَاطِلَ حقًا والمتناقضَ مُوَافِقًا.الخامس: أنه مُسْتَثْنى من الضَّمِير المَجْرُور في {عَلَيْكُم}، وتأويلُه كتأويل الوَجْه الأول.السادس: أنه مُسْتَثْنى من فاعل {يستنبطونه}، وتأويله كتأويل الوجه الثَّالث.السابع: أنه مُسْتَثْنَى من المَصْدَر الدالّ عليه الفعْلُ، والتقدير: لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعًا قليلًا؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري.الثَّامن: أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه، والتقدير: لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعًا قليلًا؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري.الثَّامن: أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه، والتقدير: لاتبعتم الشَّيْطَان كلكم إلا قليلًا من الأمُور كُنْتم لا تتَّبِعُون الشَّيْطَان فيها، فالمعنى: لاتبعتم الشَّيْطان في كل شَيْء إلا في قَليلٍ من الأمُور، فإنكم كُنْتُم لا تتَّبِعُونه فيها، وعلى هَذَا فهو استِثْناء مفرَّغ؛ ذكر ذلك ابن عَطِيَّة، إلا أنَّ في كلامه مناقشةً: وهو أنَّه قال أي: لاتَّبعتُم الشَّيْطَان كلّكم إلا قَلِيلًا من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها، فجعله هنا مُسْتَثْنَى من المتَّبعِ فيه المَحْذُوف على ما تَقَدَّم تقريره، وكان تَقَدَّم أنه مُسْتَثْنى من الاتِّباع، فتقديره يؤدِّي إلى اسْتِثْنَائِه من المتَّبَع فيه، وادِّعاؤه أنه استثنَاء من الاتباع، وهما غيران.التاسع: أن المُرَاد بالقلة العدمُ، يريد: لاتَّبعْتُم الشَّيْطان كلكم وعدمَ تخلُّفِ أحَدٍ منكم؛ نقله ابن عطية عن جَمَاعةٍ وعن الطَّبِري، ورَدَّه بأن اقْتِران القِلَّة بالاسْتِثْنَاء يقتضي دُخُولَها؛ قال: وهذا كَلاَمٌ قَلِقٌ ولا يشبه ما حَكَى سيبَويْه من قَوْلِهِم: هذه أرضٌ قَلَّ ما تُنْبِتُ كذا أي: لا تُنْبِتُ شيئًا.وهذا الذي قاله صَحيحٌ، إلا أنه كان تَقَدَّم له في البَقَرَةِ في قوله تعالى: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] أن التَّقْليل هنا بِمَعْنَى العدم، وتقدَّم الردُّ عليه هُنَاك، فَتَنَبَّهَ لهذا المَعْنَى هُنَا ولم ينتبه له هناك.العاشر: أن المُخَاطب بقوله: {لاتبعتم} جميعُ النَّاس على العُمُوم، والمُرَادُ بالقَلِيل: أمةُ محمَّد صلى الله عليه وسلم خاصةً، وأيَّد صَاحِبُ هذا القَوْلِ قوله بقوله عليه السلام: «ما أنْتُم في سِوَاكُم من الأمَمِ إلاَّ كالرَّقْمَة البَيْضاء في الثَّور الأسود». اهـ. بتصرف.
|