الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الْكَرَامَاتُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوِلَايَةِ فَضْلًا عَنِ الْعِصْمَةِ:وَأَمَّا الْكَرَامَاتُ فَهِيَ نَوْعٌ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي تُرْوَى عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ إِنَّهَا تَقَعُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالنَّبِيِّ وَالسَّاحِرِ، وَيَخْتَلِفُ اسْمُهَا بِاخْتِلَافِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَتُسَمَّى مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ إِذَا تَحَدَّى بِهَا، وَكَرَامَةً لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ الْمُتَّبِعِ لِلرَّسُولِ، وَمَعُونَةً لِمَنْ دُونَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِدْرَاجًا لِلْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ.وَصَحَّتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكُبْرَى مَا قَلَّمَا كَانَ مِثْلُهُ فِي الْمُعْجِزَاتِ حَتَّى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَقَالَ أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفُونَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَعْتَدُّوا بِهِ (أَوْ كَلِمَةً بِهَذَا الْمَعْنَى) حَتَّى تَرَوْهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلَّاطُونَ مِنْهُمْ، فَفِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ (الْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ) لِلشَّعْرِانِيِّ (وَظُهُورُ الْكَرَامَاتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ امْتِثَالُ أَوَامِرِ اللهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ مَضْبُوطًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ بِوِلَايَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فِيهِ أَحَدٌ) إِلَخْ. وَهَذَا عَيْنُ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.وَمِنْ خَلْطِهِ أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي طَبَقَاتِهِمْ مُخَالِفٌ لِشَرْطِهِ، فَهُوَ يُبْطِلُ وِلَايَةَ أَكْثَرِ رِجَالِ أَهْلِهَا مِنَ الْعُقَلَاءِ فَضْلًا عَنِ الْمَجَاذِيبِ الْمَجَانِينِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ.وَمِنْهُ، وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْهُ: (فَلَوْ رَأَيْنَا الصُّوفِيَّ يَتَرَبَّعُ فِي الْهَوَاءِ لَا يُعْبَأُ بِهِ إِلَّا إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُخَاطِبًا بِتَرْكِهَا كُلَّ الْخَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى حَالَةً أَسْقَطَتْ عَنْهُ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ أَمَارَةٍ تُصَدِّقُهُ عَلَى دَعْوَاهُ فَهُوَ كَاذِبٌ، كَمَنْ يَشْطَحُ مِنْ شُهُودٍ فِي حَضْرَةٍ خَيَالِيَّةٍ عَلَى اللهِ وَعَلَى أَهْلِ اللهِ، وَلَا يَرْفَعُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ رَأْسًا، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ عَقْلِ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُ، فَهَذَا مَطْرُودٌ عَنْ بَابِ الْحَقِّ، مُبَعْدٌ عَنْ مَقْعَدِ صِدْقٍ، وَحَرَامٌ عَلَى الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ لِمِثْلِ هَذَا). اهـ. وَهُوَ يُخَالِفُ هَذَا الْحَقَّ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.ثُمَّ قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ عَلَى وَفْقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ خَالَفَهُمَا خَرَجَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَا تَظُنَّ أَنَّهُمْ كَانُوا كَحَالِ غَالِبِ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى التَّصَوُّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتُسِيءَ الظَّنَّ بِهِمْ، إِنَّمَا كَانُوا- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَالِمِينَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، قَائِمِينَ صَائِمِينَ زَاهِدِينَ وَرِعِينَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ تَرَاجِمِهِمْ وَطَبَقَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ سِتَّ مَرَّاتٍ مِنْهُمْ، فَكُلُّ قَرْنٍ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قَبْلَهُ يَصِحُّ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ إِذِ ادَّعَى أَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا رَاجِعِينَ الْقَهْقَرَى وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». الْحَدِيثَ. اهـ.أَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ قَدْ ذَرَّ قَرْنُهُ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَظَهَرَ الشُّذُوذُ فِي الْمُنْتَحِلِينَ لَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الَّذِي تُوُفِّيَ سَنَةَ 202هـ. إِذَا تَصَوَّفَ الرَّجُلُ فِي الصَّبَاحِ لَا يَأْتِي الْمَسَاءُ- أَوْ قَالَ الْعَصْرُ- إِلَّا وَهُوَ مَجْنُونٌ. وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الَّذِي تُوُفِّيَ سَنَةَ 241هـ. بَعْدَهُ عَلَى خِيَارِهِمْ، وَنَهَى عَنْ قِرَاءَةِ كُتُبِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ عَلَى الْتِزَامِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ الْحَارِثُ فِي سَنَةِ 243هـ. وَهُوَ أُسْتَاذُ أَكَابِرِ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الشَّعَرَانِيَّ يَعُدُّ أَهْلَ قَرْنِهِ الْعَاشِرِ فِي الدَّرَجَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالصُّوفِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُدُّ أَهْلَ الْقَرْنِ الْخَامِسِ أَوَّلَ الْمُتَشَبِّهِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرُورِ مِنَ الْإِحْيَاءِ عَلَى الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ وَعَدَّ مِنْهُمْ فِرَقًا مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ 505هـ. وَكَانَ قَدْ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْ عُلُومِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَانْقَطَعَ إِلَى عِلْمِ السُّنَّةِ: ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةِ 737هـ. تَكَلَّمَ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ وَبَيَّنَ مَا لَهُمْ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَفَنَّدَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَامَ فِي هَذَا الْقَرْنِ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مِدْرَهُ السُّنَّةِ الْأَكْبَرُ، وَقَامِعُ الْبِدَعِ الْأَقْهَرُ، أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ، نَبَذَ مَنْ قَبْلَهِ، وَأَغْنَى عَمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَعَلَى كُتُبِهِ وَكُتُبِ تِلْمِيذِهِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْمُعَوَّلُ.تَفْضِيلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِهِمْ:وَمِمَّا كَتَبَهُ الشَّعَرَانِيُّ فِي كِتَابِهِ هَذَا مِنَ الْحَقِّ بَيْنَ الْأَبَاطِيلِ قَوْلُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ- وَهُوَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ- مَا نَصُّهُ:(وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا مَتَّ بِالْإِرْثِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ رَوَوُا الْأَحَادِيثَ بِالسَّنَدِ الْمُتَّصِلِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، فَلَهُمْ حَظٌّ فِي الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُمْ نَقْلَةُ الْوَحْيِ، وَهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْفُقَهَاءِ بِلَا مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ، فَلَا يُحْشَرُونَ مَعَ الرُّسُلِ إِنَّمَا يُحْشَرُونَ فِي عَامَّةِ النَّاسِ، فَلَا يَنْطَبِقُ اسْمُ الْعُلَمَاءِ حَقِيقَةً إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ وَغَيْرُهُمْ مَنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَيُحْشَرُونَ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ وَيَتَمَيَّزُونَ عَنْهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ لَا غَيْرَ كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُمَيَّزُونَ عَنِ الْعَامَّةِ فِي الدُّنْيَا، لَا غَيْرَ). اهـ.وَلَكِنَّ بَعْضَ مَنْ يُسَمَّوْنَ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَانِنَا يُفَضِّلُونَ خُرَافَاتِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَصَوِّفَةِ فِي الدَّرَجَةِ السَّادِسَةِ إِلَى الْعَاشِرَةِ وَآرَاءَ مُقَلِّدِي الْفُقَهَاءِ فِي الدَّرَجَةِ الْخَامِسَةِ- وَهِي السُّفْلَى- عَلَى عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَفُقَهَائِهِ وَحُكَمَائِهِ، وَيَطْعَنُونَ فِي الْمُحَدِّثِينَ وَكُلِّ مَنْ يَهْتَدِي بِالْحَدِيثِ قَوْلًا وَكِتَابَةً بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ!!.إِقْرَارُ مُتَقَدِّمِي الصُّوفِيَّةِ وَمُتَأَخَّرِيهِمْ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ:تَوَاتَرَ عَنْ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ أَصْلَ طَرِيقِهِمُ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُوَافَقَةُ السَّلَفِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا فِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ الشَّاذِّينَ الَّذِينَ خَلَطُوا الْبِدَعَ بِالسُّنَنِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عُلُومَهُمْ عَنِ اللهِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ مُبَاشَرَةً، وَأَنَّ عُلَمَاءَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ يَأْخُذُونَ عُلُومَهُمْ عَنِ الْمَيِّتِينَ كَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَذَا أَسَاسُ الِابْتِدَاعِ بَلِ الْمُرُوقِ مِنَ الدِّينِ. وَمِمَّا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيِّ عَنِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الدُّسُوقِيِّ مِنَ الْخَلْطِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَا نَصُّهُ:(وَكَانَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ أَسْلَمُ التَّفْسِيرِ مَا كَانَ مَرْوِيًّا عَنِ السَّلَفِ، وَأَنْكَرُهُ مَا فُتِحَ بِهِ عَلَى الْقُلُوبِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَوْلَا مُحَرِّكُ قُلُوبِنَا لَمَا نَطَقْتُ إِلَّا بِمَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ، فَإِذَا حَرَّكَ قُلُوبَنَا وَارِدٌ اسْتَفْتَحْنَا بَابَ رَبِّنَا وَسَأَلْنَاهُ الْفَهْمَ فِي كَلَامِهِ فَنَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا يَفْتَحُهُ عَلَى قُلُوبِنَا، فَسَلِّمُوا لَنَا تَسْلَمُوا، فَإِنَّنَا فَخَّارَةٌ فَارِغَةٌ، وَالْعِلْمُ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى). اهـ.أَقُولُ: مِنْ أَيْنَ نَعْلَمُ أَوْ يَعْلَمُونَ هُمْ أَنَّ خَوَاطِرَهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْوَارِدَاتِ مِنَ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ لَا مِنَ الْوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِيِّ، وَكَيْفَ نُسَلِّمُ لَهُمْ مَا لَا نَعْلَمُ، وَالْإِلْهَامُ الصَّحِيحُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ؟ ثُمَّ كَيْفَ لَا نُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مَا تَرَاهُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ، وَمُوَافِقًا لِإِلْحَادِ الْبَاطِنِيَّةِ أَوْ بِدَعِ الْخَلَفِ، وَإِنَّا وَإِيَّاهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْخِلَافُ فِيهِ؟فَثَبَتَ إِذًا أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ تَعَالَى الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، هُمْ مَنْ عَرَّفَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ الْحَقِّ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَأَنَّهُمْ دَرَجَاتٌ كَمَا بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (35: 32) فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: مَنْ يُقَصِّرُ فِي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَلَوْ بِتَرْكِ بَعْضِ الْفَضَائِلِ، وَالْمُقْتَصِدُ: مَنْ يَتْرُكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَيَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ، وَالتَّكَمُّلِ بِالْفَضَائِلِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّأَدُّبِ وَالتَّأْدِيبِ، حَتَّى يَكُونَ إِمَامًا لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذِهِ دَرَجَةُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ وَالصِّدِّيقِينِ وَمَا قَبْلَهَا دَرَجَةُ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَرَاجِعْ سُورَتَيِ الْوَاقِعَةِ وَالْمُطَفِّفِينَ، فَفِيهِمَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} (4: 69) وَهِيَ تَفْسِيرٌ لِدُعَائِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (1: 6، 7).وَبِهَذَا تَقُومُ حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْعَالَمِينِ بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ أَكْمَلَهُ لَنَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ اللهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِمَّا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِيهِ بِفَلْسَفَتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ أَوْ بِمَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْكَشْفِ لَمَا صَحَّتْ شَهَادَةُ اللهِ بِإِكْمَالِهِ، وَلَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا كُلُّ غَرَضِنَا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَقَدْ أُظْهِرَ بِهِ الْحَقُّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَّاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ حَالَ أَوْلِيَائِهِ وَصِفَتَهُمْ وَمَا بَشَّرَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَكَوْنَهُ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِهِ فِيمَا بَشَّرَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لَهَا فِيمَا أَوْعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ وَنَصْرِ مَنْ آمَنَ لَهُ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَأَنْصَارُ دِينِهِ عَلَى ضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، وَكَانَتِ الْعِزَّةُ أَيِ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ فِي مَكَّةَ لَا تَزَالُ لِلْمُشْرِكِينَ بِكَثْرَتِهِمُ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِقَوْلِهِمْ: وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ، وَكَانُوا لِغُرُورِهِمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ يُكَذِّبُونَ بِوَعْدِ اللهِ وَكَانَ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ صلى الله عليه وسلم بِالطَّبْعِ كَمَا قَالَ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} (6: 33) الآية. قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لَهُ وَمُؤَكَّدًا وَعْدَهُ لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ، وَوَعِيدَهُ لِأَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ مِنْ قَوْلِهِمُ الَّذِي يَقُولُونَهُ فِي تَكْذِيبِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَحَذَفَ مَقُولَ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَبَيَّنَ لَهُ سَبَبَ هَذَا النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} أَيْ إِنَّ الْغَلَبَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَنَعَةَ لِلَّهِ جَمِيعَهَا لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا مِنْهَا، فَهُوَ يَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُهَا مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَتْ لِلْكَثْرَةِ دَائِمًا كَمَا يَدَّعُونَ، فَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَقَدْ وَعَدَ بِهَا رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ وَاتَّبَعُوهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، كَمَا قَالَ: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (58: 21) و{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (40: 51) وَ{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (63: 8) فَعِزَّتُهُ تَعَالَى ذَاتِيَّةٌ لَهُ، وَعِزَّةُ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَمِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} (3: 26) وَقَرَأَ نَافِعٌ {يُحْزِنْكَ} بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَحْزَنَهُ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقُرِئَ {أَنَّ الْعِزَّةَ} بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنَّ لِحَذْفِ لَامِهَا، وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ {هُوَ السَّمِيعُ} لِمَا يَقُولُونَ مِنْ تَكْذِيبٍ بِالْحَقِّ وَادِّعَاءٍ لِلشِّرْكِ {الْعَلِيمُ} بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ إِيذَاءٍ وَكَيْدٍ وَمَكْرٍ، فَهُوَ يُذِلُّهُمْ وَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ، وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ آخَرُ فِي تَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسْلِيَتُهُ صلى الله عليه وسلم وَتَأْكِيدُ وَعْدِهِ بِالْعِزَّةِ وَوَعِيدَ تَكْذِيبِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْعِزَّةِ لَهُ جَمِيعًا وَالْجَزَاءِ بِيَدِهِ بِقَوْلِهِ مُسْتَأْنِفًا أَيْضًا وَمُفْتَتِحًا بِأَدَاةِ التَّنَبُّهِ: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}. اهـ.
.اهـ.
|