الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} أي: رسولًا ينذرهم كما قسمنا المطر بينهم، ولكنا لم نفعل ذلك بل جعلنا نذيرًا واحدًا، وهو أنت يا محمد، فقابل ذلك بشكر النعمة {فَلاَ تُطِعِ الكافرين} فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم، بل اجتهد في الدعوة، واثبت فيها، والضمير في قوله: {وجاهدهم بِهِ جِهَادًا كَبيرًا} راجع إلى القرآن أي: جاهدهم بالقرآن، واتل عليهم ما فيه من القوارع والزواجر والأوامر والنواهي.وقيل: الضمير يرجع إلى الإسلام، وقيل: بالسيف، والأوّل أولى.وهذه السورة مكية، والأمر بالقتال إنما كان بعد الهجرة.وقيل: الضمير راجع إلى ترك الطاعة المفهوم من قوله: {فَلاَ تُطِعِ الكافرين}.وقيل: الضمير يرجع إلى ما دل عليه قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا}؛ لأنه سبحانه لو بعث في كل قرية نذيرًا لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة القرية التي أرسل إليها، وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى، وهو محمد، فلا جرم اجتمع عليه كل المجاهدات، فكبر جهاده وعظم، وصار جامعًا لكل مجاهدة، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من البعد.ثم ذكر سبحانه دليلًا رابعًا على التوحيد، فقال: {وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين} مرج: خلّى، وخلط، وأرسل، يقال: مرجت الدابة، وأمرجتها: إذا أرسلتها في المرعى، وخليتها تذهب حيث تشاء.قال مجاهد: أرسلهما، وأفاض أحدهما إلى الآخر.قال ابن عرفة: خلطهما، فهما يلتقيان، يقال: مرجته: إذا خلطته، ومرج الدين والأمر: اختلط واضطرب، ومنه قوله: {فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق: 5] وقال الأزهري: {مَرَجَ البحرين} خلى بينهما، يقال: مرجت الدابة: إذا خليتها ترعى.وقال ثعلب: المرج الإجراء، فقوله: {مَرَجَ البحرين} أي: أجراهما.قال الأخفش: ويقول قوم: أمرج البحرين مثل مرج، فعل وأفعل بمعنى: {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} الفرات: البليغ العذوبة، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: كيف مرجهما؟ فقيل: هذا عذب، وهذا ملح، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال.قيل: سمى الماء الحلو فراتًا، لأنه يفرت العطش أي: يقطعه، ويكسره {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي: بليغ الملوحة، هذا معنى الأجاج.وقيل: الأجاج البليغ في الحرارة، وقيل: البليغ في المرارة، وقرأ طلحة {ملح} بفتح الميم، وكسر اللام {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} البرزخ: الحاجز، والحائل الذي جعله الله بينهما من قدرته يفصل بينهما، ويمنعهما التمازج، ومعنى {حِجْرًا مَّحْجُورًا} سترًا مستورًا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ الحاجز، والحجز: المانع.وقيل: معنى {حِجْرًا مَّحْجُورًا} هو ما تقدّم من أنها كلمة يقولها المتعوّذ، كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه، ويقول له هذا القول، وقيل: حدًّا محدودًا.وقيل: المراد من البحر العذب: الأنهار العظام كالنيل والفرات وجيحون، ومن البحر الأجاج: البحار المشهورة، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض.وقيل: معنى {حِجْرًا مَّحْجُورًا} حرامًا محرمًا أن يعذب هذا المالح بالعذب، أو يملح هذا العذب بالمالح، ومثل هذه الآية قوله سبحانه في سورة الرحمن:{مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19، 20].ثم ذكر سبحانه حالة من أحوال خلق الإنسان والماء، فقال: {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}، والمراد بالماء هنا: ماء النطفة أي: خلق من ماء النطفة إنسانًا، فجعله نسبًا وصهرًا، وقيل: المراد بالماء: الماء المطلق الذي يراد في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ} [الأنبياء: 30]، والمراد بالنسب: هو الذي لا يحلّ نكاحه.قال الفراء، والزجاج: واشتقاق الصهر من صهرت الشيء: إذا خلطته، وسميت المناكح صهرًا لاختلاط الناس بها.وقيل: الصهر: قرابة النكاح؛ فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار تعمهما، قاله الأصمعي.قال الواحدي: قال المفسرون: النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} إلى قوله: {وأمهات نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ومن هنا إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} [النساء: 23] تحريم بالصهر، وهو الخلطة التي تشبه القرابة، حرم الله سبعة أصناف من النسب، وسبعة من جهة الصهر، قد اشتملت الآية المذكورة على ستة منها، والسابعة قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 22]، وقد جعل ابن عطية، والزجاج، وغيرهما الرضاع من جملة النسب، ويؤيده قوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} أي: بليغ القدرة عظيمها، ومن جملة قدرته الباهرة خلق الإنسان، وتقسيمه إلى القسمين المذكورين.وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} قال: بعد الفجر قبل أن تطلع الشمس.وأخرج ابن أبي حاتم عنه بلفظ: أَلَمْ تَرَ أنك إذا صليت الفجر كان بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلًا، ثم بعث الله عليه الشمس دليلًا، فقبض الظلّ.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضًا في الآية قال: مدّ الظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} قال: دائمًا {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلًا} يقول: طلوع الشمس {ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} قال: سريعًا.وأخرج أهل السنن، وأحمد، وغيرهم من حديث أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي: بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» وفي إسناد هذا الحديث كلام طويل قد استوفيناه في شرحنا على المنتقى.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: ما من عام بأقلّ مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، ثم قرأ هذه الآية: {وَلَقَدْ صرفناه بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} الآية.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وجاهدهم بِهِ} قال: بالقرآن.وأخرج ابن جرير عنه: {هُوَ الذي مَرَجَ البحرين} يعني: خلط أحدهما على الآخر، فليس يفسد العذب المالح، وليس يفسد المالح العذب.وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} يقول: حجر أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه.وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن المغيرة قال: سئل عمر بن الخطاب عن {نَسَبًا وَصِهْرًا}، فقال: ما أراكم إلا وقد عرفتم النسب، وأما الصهر: فالأختان والصحابة. اهـ.
|