الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال تعالى: {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. أي قائم على كل شيء، يراه رؤية شهود، فيعلم كل شيء علما كاشفا.. يعلم ما أنا عليه من قيامي برسالة ربي إليكم، ويعلم ما يكون منكم من قبول لهذه الرسالة، أو ردّها، وسيجزى كلّا بما عم.قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.والمراد بالقذف بالحق: رمى الباطل بالحق، حتى يصرعه.. فالقذف، هو الرمي الشديد، كما يقذف بالحجر أو نحوه، ليصيب مقتلا من عدو.وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} (18: الأنبياء).وقوله تعالى: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} بدل من قوله تعالى: {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ}. أي أنه سبحانه لا يقذف بالحق هكذا خبط عشواء، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.. إنه يقذف به عن علم، فيقع حيث يشاء، وحيث يصيب الباطل في مقاتل.قال تعالى: {قُلْ جاء الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ} هو تعقيب على الآية السابقة، التي قررت أن اللّه سبحانه وتعالى لا ينزّل إلا ما هو حقّ، ولا يرمى إلا بما هو حق.وها هو ذا الحقّ قد جاء في هذه الدعوة التي يحملها الرسول الكريم في آيات اللّه المطهرة.. وإنها لحق قذف به هذا الباطل الذي يعيش في مجتمع الجاهليين.. وليس بعد هذا القذف إلا أن يلقى الباطل مصرعه، وتختفى أشباح الضلال، وأشياع.فقال تعالى: {وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ}. إشارة إلى أن الباطل قد أصيب في مقاتله، وأنه لن تقوم له بعد اليوم قائمة، ولن يكون له بعد اليوم صوت يسمع.. فالمراد بنفي البدء والإعادة لازمها، وهو عدم التأثير،. أي أنه الباطل يفقد كل آثاره وأفعاله، بعد أن يقذف بالحق، كما يقول سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} (18: الأنبياء) قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} وهذا الحقّ الذي جاء، إن ضللت عنه، ولم أتبع هديه- فإنما عاقبة هذا الضلال واقعة علىّ.. وإن اهتديت بهذا الهدى، واستقمت على طريقه، ففى هذا النجاة لى، والغنيمة التي أغتنمها من.وفي قوله تعالى: {فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} إشارة إلى أن هدى القرآن هو الهدى، وأنه لا هدى إلا منه، وأن من التمس الهدى في غيره ضلّ، وخاب وخس.وفى هذا إشارة أيضا إلى أن مصدر الهدى، هو اللّه سبحانه وتعالى، وأنه من هذا الهدى الإلهى، يهتدى النبىّ، ويهتدى المهتدون.. فالنبىّ- وهو رسول اللّه- إنما يلتمس الهدى من هذا القرآن، الذي هو حقّ للناس جميعا، ليس للنبىّ فيه، إلا ما للناس جميعا.. ومن هنا، فإنه لا حقّ له- صلوات اللّه وسلامه عليه- في أن يطلب أجرا على شيء هو مشاع في الناس، كالنور، والهواء، والماء.. وفي هذا أيضا دعوة إلى من يجدون في أنفسهم أنفة أو كبرا أن يأخذوا من القرآن حظهم من الهدى إذ كان النبىّ هو الذي يحمله، ويدعو إليه- في هذا دعوة لهم أن يتخففوا من هذا الشعور، وأن ينظروا إلى القرآن باعتبار المصدر الذي جاء منه، وأنه من عند اللّه، وليس من عند محمد، وأن محمدا يأخذ حظّه من هدى اللّه هذا، فليأخذواهم حظهم كذلك- في غير حرج، وليرتووا من هذا النبع العذب، وألا يهلكوا أنفسهم، بسبب أن كان القائم على هذا النبع رجلا منهم! وقال تعالى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} أي ليس اللّه سبحانه وتعالى بعيدا عن هذا الهدى الذي يدعوهم إليه رسول اللّه.. إنه قريب منهم، سميع لهمسات شفاههم، وخفقات قلوبهم.. إنه سبحانه، أقرب إليهم، وإلى هذا الهدى من رسول اللّه، وأنهم إذا جاءوا إلى هذا الهدى وجدوا اللّه عنده.. فما لهم لا يتلقون الهدى من اللّه، إن أنفوا أن يتلقوه من رسول اللّه؟إن في هذه الحجة إلزاما لهم، وقطعا لكل عذر يعتذرون به.. ويبقى للرسول مع هذا مقامه من ربه، ومكانه من الدعوة إلى اللّه..!قال تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ} هو سوق لهؤلاء الضالين الذين أمسكوا بضلالهم، ولم يقبلوا هذا الهدى المعروض عليهم في شتى صور العرض- هو سوق لهم إلى المصير المشئوم الذي ينتظره.والصورة التي يراها هؤلاء الضالون لأنفسهم هنا والتي يراها الناس لهم، هي أنهم في ساحة المحاكمة، يوم القيامة، وقد استولى عليهم الفزع من هذا الهول المحيط بهم، وهذا البلاء المشتمل عليهم، وقد أحيط بهم من كل مكان، فلا فوت ولا مهرب له.وجواب الشرط للحرف لو محذوف، للدلالة على أنه لا يحيط به الوصف.. ومن صور الجواب، التي تقع في التصور أن الذي يراهم في تلك الحال، يرى أهوالا يموج فيها القوم، لا يستطيع الناظر أن ينظر إليها، وبملأ عينيه منها.. إنها شيء مخيف.. مفزع.. فظيع! والمكان القريب الذي أخذوا منه، هو دنياهم التي كانوا فيها.. وهى- أيّا كانوا منها- قريبة إلى اللّه، فكل شيء في الوجود قبضته يده! قال تعالى: {وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ}.هو معطوف على قوله تعالى: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ}. أي أنهم في هذه الحال، يقولون «آمنا به» أي بالقرآن، أو بالرسول وبما جاء به.وقال تعالى: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} أنّى بمعنى كيف. وهو استفهام يراد به الاستبعا.والتناوش: التناول خطفا بأطراف الأصابع، حيث تقصر اليد عن تناول الشيء، فتلمسه، ولا تتمكن منه، فتكثر لذلك حركة اليد، قبضا وبسط.والمعنى أنهم إذ يقولون آمنا باللّه، وبكتابه، يتعلقون بآمال كاذبة، ويمسكون بخيط من الوهم.. فقد بعدت بينهم وبين مطلبهم الشقة.. إنهم في عالم غير هذا العالم الذي كان ينفعهم فيه هذا القول.. وإنه لمحال أن يعودوا إلى هذا العالم.. إنه مكان بعيد عنهم.. إنه الدنيا.. وهم في الآخرة.. وما أبعد المسافة بين الدنيا والآخرة بالنسبة لهم! وفي التعبير بالتناوش، عن الأمل الذي يراودهم في هذا الموقف، بإعلان الإيمان- إعجاز من إعجاز القرآن، في صدق الأداء، وروعته، ودقته.. فالأمل الذي يتعلقون به، لا يمسكون منه بشىء.. إنه لا يكاد يظهر حتى يختفى، ثم يظهر ويختفى، وهم يجرون وراءه حتى تتقطع أنفاسهم دونه، وفي هذا مضاعفة للعذاب الذي هم فيه.. {كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماء لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاء الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} (14: الرعد).إنهم يمدون أيديهم وهم في الآخرة، ليتناولوا هذا الأمل الذي فاتهم في في الدنيا، ويناوشونه مناوشة من بعيد، ولا تمسك أيديهم بشىء منه.قال تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ}.الواو، واو الحال، والجملة بعده حال من الكافرين، الذين قالوا آمنا ب.أي أنهم قالوا هذا القول عن القرآن في الآخرة، وقد كفروا به في الدنيا، وقد كانوا يقذفون بالغيب وهو ما يحدثهم به القرآن عن البعث في الآخرة والحساب، والجزاء، وكلها غيب.. فلم يقبلوا هذا، وقذفوا به، ورموه، وهم في مكان بعيد أي في الدنيا.. وهم الآن في الآخرة، فكيف لهم أن يلحقوا بهذا الذي قذفوه، ويمسكوا به؟.قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}.حيل بينهم وبين ما يشتهون: أي حجز بينهم وبينه.. فلا سبيل لهم إلي.والذي يشتهونه، هو العودة إلى الدنيا، وأخذ ما فاتهم، واسترداد ما ضاع منهم فيها، من الإيمان باللّه واليوم الآخر.والأشياع: هم الأولياء، والأنصار.. وهم هنا من كان على شاكلة هؤلاء الكافرين من القرون الغابرة، والأمم الماضية، أو من جاء بعدهم ممن كانوا على الكفر في الدني.والمعنى أنه قد حيل بين هؤلاء المشركين، وبين ما كانوا يتمنونه، ويطمعون فيه من العودة إلى الدنيا، وإصلاح ما أفسدوا من أمرهم، كما حيل بين كل كافر وبين هذه الشهوة التي يشتهيها في الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان أهل الكفر والضلال في الآخرة: {يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (27: الأنعام).وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} وصف لما كان عليه أهل الكفر والضلال في الدنيا، وأنهم كانوا في شك مريب من أمر الآخرة أي في شك يقوم من ورائه شك. فلا يخرج بهم الشك إلا إلى شك، فلم يكن يقع منهم أبدا الايمان باللّه، ولو ردوا إلى الدنيا- بما هم عليه من طباع- لعادوا إلى ما نهوا عنه.. اهـ.
|