الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثاني: قال مجاهد، كان مؤمنًا وحده، والناس كلهم كانوا كفارًا فلهذا المعنى كان وحده أمة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: «يبعثه الله أمة وحده» الثالث: أن يكون أمة فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والبغية، فالأمة هو الذي يؤتم به، ودليله قوله: {إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124].الرابع: أنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ممتازين عمن سواهم بالتوحيد والدين الحق، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سماه الله تعالى بالأمة إطلاقًا لاسم المسبب على السبب، وعن شهر بن حوشب لم تبق أرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم عليه السلام فإنه كان وحده.الصفة الثانية: كونه قانتًا لله، والقانت هو القائم بما أمره الله تعالى به قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه كونه مطيعًا لله.الصفة الثالثة: كونه حنيفًا والحنيف المائل إلى ملة الإسلام ميلًا لا يزول عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى، وهذه صفة الحنيفية.الصفة الرابعة: قوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} معناه: أنه كان من الموحدين في الصغر والكبر والذي يقرر كونه كذلك أن أكثر همته عليه السلام كان في تقرير علم الأصول فذكر دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه وهو قوله: {رَبّيَ الذي يُحْىِ وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]. ثم أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: {لا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76]. ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أن ألقوه في النار، ثم طلب من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى ليحصل له مزيد الطمأنينة، ومن وقف على علم القرآن علم أن إبراهيم عليه السلام كان غارقًا في بحر التوحيد.الصفة الخامسة: قوله: {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ} روي أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفًا فأخر غداءه فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام فقال: الآن يجب عليّ مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء.فإن قيل: لفظ الأنعم جمع قلة، ونعم الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة.فلم قال: {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ}.قلنا: المراد أنه كان شاكرًا لجميع نعم الله إن كانت قليلة فكيف الكثيرة.الصفة السادسة: قوله: {اجتباه} أي اصطفاه للنبوة.والاجتباء هو أن تأخذ الشيء بالكلية وهو افتعال من جبيت، وأصله جمع الماء في الحوض والجابية هي الحوض.الصفة السابعة: قوله: {وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} أي في الدعوة إلى الله والترغيب في الدين الحق والتنفير عن الدين الباطل، نظيره قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه} [الأنعام: 153].الصفة الثامنة: قوله: {وءاتيناه في الدنيا حَسَنَةً} قال قتادة: إن الله حببه إلى كل الخلق فكل أهل الأديان يقرون به، أما المسلمون واليهود والنصارى فظاهر، وأما كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به، وتحقيق الكلام أن الله أجاب دعاءه في قوله: {واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخرين} [الشعراء: 84]، وقال آخرون: هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وقيل: الصدق، والوفاء والعبادة.الصفة التاسعة: قوله: {وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصالحين}.فإن قيل: لم قال: {وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصالحين} ولم يقل: وإنه في الآخرة في أعلى مقامات الصالحين؟قلنا: لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: {رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [البقرة: 130]. فقال ههنا: {وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصالحين} تنبيهًا على أنه تعالى أجاب دعاءه ثم إن كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين فإن الله تعالى بين ذلك في آية أخرى وهي قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء} [الأنعام: 83].واعلم أنه تعالى لما وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة قال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} وفيه مباحث:البحث الأول: قال قوم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على شريعة إبراهيم عليه السلام، وليس له شرع هو به منفرد، بل المقصود من بعثته عليه السلام إحياء شرع إبراهيم عليه السلام وعول في إثبات مذهبه على هذه الآية وهذا القول ضعيف، لأنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: {اتبع مِلَّةَ إبراهيم} كان المراد ذلك.فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية وإذا كان كذلك لم يكن متابعًا له فيمتنع حمل قوله: {إِنْ أَتَّبِعْ} على هذا المعنى فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.قلنا: يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.البحث الثاني: قال صاحب الكشاف: لفظة {ثم} في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} تدل على تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته من قبل، إن هذه اللفظة دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة عن سائر المدائح التي مدحه الله بها.{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}.اعلم أنه تعالى لما أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم بمتابعة إبراهيم عليه السلام، وكان محمد عليه السلام اختار يوم الجمعة، فهذه المتابعة إنما تحصل إذا قلنا إن إبراهيم عليه السلام كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة، وعند هذا لسائل أن يقول: فلم اختار اليهود يوم السبت؟فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} وفي الآية قولان:القول الأول: روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أمرهم موسى بالجمعة وقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يومًا واحدًا وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئًا من أعمالكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك، وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق وهو يوم السبت، فجعل الله تعالى السبت لهم وشدد عليهم فيه، ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضًا بالجمعة، فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا واتخذوا الأحد.وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد».إذا عرفت هذا فنقول: قوله تعالى: {على الذين اختلفوا فِيهِ} أي على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم في السبت كان اختلافهم على نبيهم في ذلك اليوم أي لأجله، وليس معنى قوله: {اختلفوا فِيهِ} أن اليهود اختلفوا فيه فمنهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به، لأن اليهود اتفقوا على ذلك فلا يمكن تفسير قوله: {اختلفوا فِيهِ} بهذا، بل الصحيح ما قدمناه.فإن قال قائل: هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت؟ وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ تعالى بالخلق والتكوين من يوم الأحد وتم في يوم الجمعة، فكان يوم السبت يوم الفراغ، فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فعينوا السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين هو يوم الأحد، فنجعل هذا اليوم عيدًا لنا، فهذان الوجهان معقولان، فما الوجه في جعل يوم الجمعة عيدًا لنا؟قلنا: يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه، والله أعلم.والقول الثاني: في اختلافهم في السبت، أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة.ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} والمعنى: أنه تعالى سيحكم يوم القيامة للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب. اهـ.
|