الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الفخر: القائلون بأن هذه الوصية كانت واجبة أوردوا على أنفسهم سؤالًا فقالوا: الله تعالى ذكر الوفاة، ثم أمر بالوصية، فكيف يوصي المتوفى؟ وأجابوا عنه بأن المعنى: والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها وجواب آخر وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى بمعنى أمره وتكليفه، كأنه قيل: وصية من الله لأزواجهم، كقوله: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} [النساء: 11] وإنما يحسن هذا المعنى على قراءة من قرأ بالرفع. اهـ..قال البقاعي: ولما كان هذا المتاع الواجب من جهة الزوج جائزًا من جهة المرأة نبه عليه بقوله: {فإن خرجن} أي من أنفسهن من غير مزعج ولا مخرج {فلا جناح عليكم} يا أهل الدين الذين يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {فيما فعلن في أنفسهن} من النكاح ومقدماته.ولما كانت لهن في الجاهلية أحوال منكرة في الشرع قيده بقوله: {من معروف} أي عندكم يا أهل الإسلام.ولما كان في هذا حكمان حكم من جهة الرجال فضل وآخر من جهة النساء عفو فكان التقدير: فالله غفور حليم، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي لا كفوء له {عزيز حكيم} وفي ضمنه كما قال الحرالي تهديد شديد للأولياء إن لم ينفذوا ويمضوا هذه الوصية بما ألزم الله، ففي إلاحته أن من أضاع ذلك ناله من عزة الله عقوبات في ذات نفسه وزوجه ومخلفيه من بعده ويجري مأخذ ما تقتضيه العزة على وزن الحكمة جزاء وفاقًا وحكمًا قصاصًا، وهذه الآية مما ذكر فيها بعض الناس النسخ وإنما هي مما لحقها نسيان أوقعه الله تعالى على الخلق حتى لا يكاد أن يكون عمل بها أحد إلا أحدًا لم يذكر به ولم يشتهر منه فهي مما أنسى فران عليه النسيان لأمر شاءه الله سبحانه وتعالى والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وقد ورد «أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ لامرأة من تركة زوجها نفقة سنة» وذلك والله سبحانه وتعالى أعلم قبل نزول آية الفرائض حين كانت الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف- انتهى.وبما قال الحرالي من أنها غير منسوخة قال مجاهد كما تقدم في رواية البخاري عنه أن الزوجة إن اختارت هذا فعدتها الحول وإلا فعدتها الآية الأولى، ونقله الشمس الأصفهاني عنه في تفسيره، ونقل عن بلديه أبي مسلم قريبًا منه فإنه قال بعد أن نقل عنه أنها غير منسوخة: ليس التقدير ما يفيد الوجوب على الزوج مثل: فليوصوا بل التقدير: وقد وصوا، أو: ولهم وصية.وحسن تعقيب آية المحافظة على الصلاة بعدة الوفاة كون الخوف المذكور فيها من أسباب القتل، ولعل إثباتها في التلاوة مع كونها منسوخة الحكم على ما قال الجمهور تذكيرًا للنساء بما كان عدة لهن في أول الأمر لئلا يستطلن العدة الثابتة بأربعة أشهر وعشر فينتهكن شيئًا من حرماتها، كما أشار إليه ما في الصحيحين وغيرهما عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن امرأة استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تكحل ابنتها لوجع أصابها، فأبى وقال: «قد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول». اهـ..قال الفخر: أما قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فالمعنى: لا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين، ومن الإقدام على النكاح، وفي رفع الجناح وجهان أحدهما: لا جناح في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول.والثاني: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها حولًا في بيت زوجها ليس بواجب عليها. اهـ..قال أبو حيان: {والله عزيز حكيم} ختم الآية بهاتين الصفتين، فقوله: عزيز، إظهار للغلبة والقهر لمن منع من إنفاذ الوصية بالتمتيع المذكور، أو أخرجهن وهنّ لا يخترن الخروج، ومشعر بالوعيد على ذلك. وقوله: حكيم، إظهار أن ما شرع من ذلك فهو جارٍ على الحكمة والإتقان، ووضع الأشياء مواضعها.قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلاَّ ما قاله الطبري عن مجاهد وفي ذلك نظر على الطبري. انتهى كلامه.وقد تقدّم أوّل الآي ما نقل عن مجاهد من أنها محكمة، وهو قول ابن عطية في ذلك. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: قال ابن عادل:المعتدَّة من فرقة الوفاة، لا نفقة لها، ولا كسوة حاملًا كانت، أو حائلًا.وروي عن عليٍّ، وابن عمر رضي الله عنهما أنَّ لها النَّفقة إذا كانت حاملًا، وعن جابر، وابن عبَّاس رضي الله عنهما أنهما قالا: لا نفقة لها، حسبها الميراث، وهل تستحقُّ السُّكنى؟ قال عليٌّ، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم: لا تستحقُّ السُّكنى، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ.وقال عمر، وابن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأمُّ سلمة: إنها تستحقُّ السُّكنى، وبه قال مالك، والثَّوريُّ، وأحمد.واحتجَّ كلٌّ من الطائفتين بخبر فريعة بنت مالك، أخت أبي سعيدٍ الخدريِّ، قتل زوجها؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّي أرجع إلى أهلي، فإنَّ زوجي ما تركني في منزل يملكه؛ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «نَعَمْ»، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد، أو في الحجرة دعاني فقال: «امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ»، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث.فقيل: لم يوجب في الابتداء، ثمَّ أوجب؛ فصار الأوَّل منسوخًا.وقيل: أمرها بالمكث في بيتها أجرًا على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الوجوب.واحتجَّ المزنيُّ على أنَّه لا سكنى لها فقال: أجمعنا على أنَّه لا نفقة لها؛ لأنَّ الملك انقطع بالموت، فكذلك السُّكنى بدليل: أنهم أجمعوا على أنَّ من وجب له نفقةً، وسكنى عن ولد ووالد على رجلٍ؛ فمات؛ انقطعت نفقتهم، وسكناهم؛ لأنّ ماله صار ملكًا للوارث، فكذا ها هنا.وأجيب بأنَّه لا يمكن قياس السُّكنى على النفقة؛ لأنَّ المطلقة ثلاثًا تستحقُّ السُّكنى بكلِّ حالٍ، ولا تستحقُّ النَّفقة لنفسها عند المزنيّ. ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع، ولا يمكن ها هنا، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء، وهو موجودٌ ها هنا فافترقا. اهـ..فوائد بلاغية: قال في صفوة التفاسير:البلاغة:1- {الصلاة الوسطى} هو من باب عطف الخاص على العام لبيان مزيد فضل صلاة العصر.2- {فإن خفتم} {فإذا أمنتم} بين لفظ {خفتم} و{أمنتم} طباق، وهو من المحسنات البديعية، قال أبو السعود: وفي إيراد الشرطية بكلمة إن المنبئة عن عدم تحقق وقوع الخوف، وإيراد الثانية بكلمة إذا المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى والإطناب في جواب الثانية، من الجزالة ولطف الاعتبار، ما فيه عبرة لأولي الأبصار. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}.قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي، وأبو بكرٍ، عن عاصم: وَصِيَّةٌ بالرفع والباقون: بالنصب.وفي رفع {الذين يُتَوَفَّوْنَ} ثمانية أوجهٍ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع {وَصِيَّةً}، وثلاثةٌ على قراءة من نصب {وصيةٌ}؛ فأوّل الخمسة، أنه مبتدأ، و{وَصِيَّةٌ} مبتدأ ثانٍ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديرًا؛ إذ التقدير: {وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ} أو مِنْهُمْ؛ على حسب الخلاف فيها: أهي واجبةٌ من الله تعالى، أو مندوبةٌ للأزواج؟ ولأَزْوَاجِهِمْ خبر المبتدأ الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول، وفي هذه الجملة ضمير الأول، وهذه نظير قولهم: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ تقديره: مَنَوَانِ مِنْهُ، وجعل ابن عطية المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص؛ قال: كما حَسُنَ أَنْ يرتفع: سَلاَمٌ عَلَيْكَ وخَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ؛ لأنها موضع دعاءٍ قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ.الثاني: أن تكون وَصِيَّةٌ مبتدأ، ولأَزْوَاجِهِمْ صفتها، والخبر محذوفٌ، تقديره: فعليهم وصيةٌ لأزواجهم، والجملة خبر الأوَّل.الثالث: أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ، تقديره: كتب عليهم وصيَّةٌ ولأَزْوَاجِهِمْ صفةٌ، والجملة خبر الأول أيضًا؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبدالله: {كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ} وهذا من تفسير المعنى، لا الإعراب؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل.الرابع: أن الَّذِينَ مبتدأٌ، على حذف مضافٍ من الأول، تقديره: ووصيَّةُ الذين.الخامس: أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني، تقديره: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ} ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ، قال أبو حيان: ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك.فهذه الخمسة الأولى التي على رفع {وَصِيَّةٌ}.وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في {وَصِيَّةٌ}:فأحدها: أنه فاعل فعل محذوفٍ، تقديره: وليوص الذين، ويكون نصب {وَصِيَّةٌ} على المصدر.الثاني: أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين، تقديره: وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ويكون نصب وَصِيَّةً على أنها مفعولٌ ثانٍ لأُلْزِمَ، ذكره الزمخشريُّ، وهو والذي قبله ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل.الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبره محذوف، وهو الناصب لوصية، تقديره: والذين يتوفون يوصون وصيَّة، وقدره ابن عطية: لِيُوصُوا ووَصِيَّةً منصوبةٌ على المصدر أيضًا، وفي حرف عبدالله: {الوَصِيَّةُ} رفعًا بالابتداء، والخبر الجارُّ بعدها، أو مضمرٌ أي: فعليهم الوصية، والجارُّ بعدها حالٌ، أو خبرٌ ثانٍ، أو بيانٌ.قوله تعالى: {مَّتَاعًا} في نصبه سبعة أوجهٍ:أحدها: أنَّه منصوبٌ بلفظ وَصِيَّة لأنها مصدرٌ منونٌ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتاء؛ لبنائها عليها؛ فهي كقوله: الطويل:والأصل: وصية بمتاع، ثم حذف حرف الجرِّ، اتساعًا، فنصب ما بعده، وهذا إذا لم تجعل الوصيَّة منصوبةٌ على المصدر؛ لأن المصدر المؤكَّد لا يعمل، وإنما يجيء ذلك حال رفعها، أو نصبها على المفعول؛ كما تقدَّم تفصيله.والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ، إمَّا من لفظه، أي: متِّعوهنَّ متاعًا، أي: تمتيعًا، أو من غير لفظه، أي: جعل الله لهنَّ متاعًا.الثالث: أنه صفةٌ لوصية.الرابع: أنه بدل منها.الخامس: أنه منصوبٌ بما نصبها، أي: يوصون متاعًا، فهو مصدر أيضًا على غير الصدر؛ كقَعَدْتُ جُلُوسًا، هذا فيمن نصب {وَصِيَّةٌ}.السادس: أنه حالٌ من الموصين: أي ممتَّعين أو ذوي متاعٍ.السابع: أنه حالٌ من أزواجهم، أي: ممتَّعاتٍ أو ذوات متاعٍ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانت الوصية من الأزواج.وقرأ أُبيٌّ: {مَتَاعٌ لأَزْوَاجِهِمْ} بدل {وَصِيَّةٌ}، وروي عنه فَمَتَاعٌ، ودخول الفاء في خبر الموصول؛ لشبهه بالشرط، وينتصب مَتَاعًا في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر، فإنه بمعنى التمتيع؛ نحو: يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ لَكَ ضَرْبًا شَدِيدًا، ونظيره: {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا} [الإسراء: 63]، و{إِلَى الحَوْلِ} متعلِّقٌ ب {مَتَاع} أو بمحذوفٍ؛ على أنه صفة له.قوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في نصبه ستة أوجهٍ:أحدها: أنه نعتٌ لمَتَاعًا.الثاني: أنه بدلٌ منه.الثالث: أنه حالٌ من الزوجات، أي: غير مخرجات.الرابع: أنه حالٌ من الموصين، أي: غير مخرجين.الخامس: أنه منصوب على المصدر، تقديره: لا إخراجًا، قاله الأخش.السادس: أنه على حذف حرف الجرِّ، تقديره: من غير إخراجٍ، قاله أبو البقاء، قال شهاب الدين: وفيه نظر.قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبر لا وهو عَلَيْكُمْ من الاستقرار، والتقدير: لا جناح مستقرٌّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنَّ، ومَا موصولةٌ اسميةٌ، والعائد محذوف، تقديره: فعلنه، و{مِنْ مَعْرُوفٍ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من ذلك العائد المحذوف، وتقديره: فيما فعلنه كائنًا من معروفٍ.وجاء في هذه الآية: {مِن مَّعْرُوفٍ} نكرةً مجرورةً ب {مِنْ}، وفي الآية قبلها {بِالمَعْرُوفِ} معرَّفًا مجرورًا بالباء؛ لأنَّ هذه لام العهد؛ كقولك: رَأَيْتُ رَجُلًا فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ إلاَّ أنَّ هذه، وإن كانت متأخِّرةً في اللفظ، فهي متقدِّمة في التنزيل، ولذلك جعلها العلماء منسوخةً بها، إلا عند شذوذٍ، وتقدَّم نظائر هذه الجمل، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها.ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع، ولا يمكن ها هنا، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء، وهو موجودٌ ها هنا فافترقا. اهـ. باختصار.
|