الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والقبض: ضد المدّ فهو مستعمل في معنى النقص، أي نقصنا امتداده، والقبض هنا استعارة للنقص.وتعديته بقوله: {إلينا} تخييل، شُبِّه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية، وحرف إلى ومجروره تخييل.وموقع وصف القبض بيسير هنا أنه أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة، فإن في التريث تسهيلًا لقبضه لأن العمل المجزّأ أيسر على النفوس من المجتمع غالبًا، فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفًا، وهو التدريج ببطء، على طريقة الكناية، ليكون صالحًا لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا.وتعدية القبض ب {إلينا} لأنه ضد المدّ الذي أسند إلى الله في قوله: {مد الظل}.وقد علم من معنى {قبضناه} أن هذا القبض واقع بعد المد فهو متأخر عنه.وفي مَدِّ الظل وقبضِه نعمةُ معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس، ونعمةُ التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظلّ، والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه.هذا محل العبرة والمنّة اللتين تتناولهما عقول النّاس على اختلاف مداركهم.ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي وحركةُ الأرض حول الشمس وظهورُ الظلمة والضياء، فليس الظل إلا أثر الظلمة فإن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة.ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدمًا، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها، ثم كيف تعود إلى العدم تدريجًا في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم، فذلك مما يشير إليه {ثم قبضناه إلينا قبضًا يسيرًا} فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظلّ في هذه الآية مع المنّة والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس وأحوال الشباب وتقدم السن، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربّهم يوم البعث مصيرًا لا إحالة فيه ولا بعد، كما يزعمون، فلما صار قبض الظل مثلًا لمصير الناس إلى الله بالبعث وُصف القبض بيسير تلميحًا إلى قوله: {ذلك حَشْر علينا يسير} [ق: 44].وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض وما هو إلا ظل.فهذان المَحملان في الآية من معجزات القرآن العلمية. اهـ.
وقال تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171].وحين تتأمل هذه الظاهرة ساعة طلوع الشمس ترى الشيء الكثيف الذي يحجب ضوء الشمس يطول ظِلُّه إلى نهاية الأفق، ثم يأخذ في القِصر كلما ارتفعتْ الشمس إلى أنْ يصير في زوال، ثم ينعكس الظل مع ميل الشمس ناحية الغرب فيطول إلى نهاية الأفق.والحق تبارك وتعالى يريد منا أن نلاحظ هذه الظاهرة، وأنْ نتأملها {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] أي: ساعة طلوع الشمس {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45] لأن مشيئة الله تستطيع أن تخلق الشيء ونقيضه، فإنْ شاءَ مَدَّ الظل، وإنْ شاء أمسكه.لكنه يتغير: ينقص في أول النهار، ويزيد في آخره وكل ما يقبل الزيادة يقبل النقص، والنقص أو الزيادة حركة، وللحركة نوعان: حركة قَفْزية كحركة عقرب الدقائق في الساعة، فهو يتحرك بحركة قفزية، وهي أنْ يمرَّ على المتحرك وقت ساكن ثم يتحرك، إنما أتدرك ذلك في حركة عقرب الساعات؟ لا؛ لأنه يسير بحركة انسيابية، بحيث توزع أجزاء الحركة على أجزاء الزمن.ومثَّلْنا هذه الحركة بنمو الطفل الصغير الذي لا تدرك حركة نموه حالَ نظرك له منذ ولادته، إنما إنْ غبْتَ عنه فترة أمكنك أنْ تلاحظ أنه يكبر ويتغير شكله؛ لأن نموه مُوزَّع على فترات الزمن، لا يكبر هكذا مرة واحدة، فهي مجموعات كِبَر تجمعتْ في أوقات متعددة، وليس لديك المقياس الدقيق الذي تلاحظ به كبر الطفل في فترة قصيرة.وإذا كنا نستطيع إجراء هذه الحركة في الساعات مثلًا، فالحق تبارك وتعالى يُحدِثها في حركة الظل وينسبها لعظمها إلى نفسه تعالى؛ لأن الظل لا يسير بحركة ميكانيكية كالتي تراها في الساعة إنما يسير بقدرة الله.والحق سبحانه يلفتنا إلى هذه الظاهرة، لا لأنها مجرد ظاهرة كونية نراها وتعجب منها، إنما لأننا سنستغلها وننتفع بها في أشياء كثيرة.فقدماء المصريين أقاموا المسلات ليضبطوا بها الزمن عن طريق الظل، وصنع العرب المسلمون المزْولة لضبط الوقت مع حركة الشمس، ونرى الفلاح البسيط الآن ينظر إلى ظل شيء ويقول لك: الساعة الآن كذا؛ لأنه تعودَّ أن يقيس الوقت بالظل، مع أن مثل هذا التقدير يكون غير دقيق؛ لأن للشمس مطالعَ متعددة على مرِّ أيام العام؛ لذلك في أحد معابد الفراعنة معبد به 365 طاقة، تدخل الشمس كل يوم واحدة منها.إذن: أفادنا الظل في المسلات والمزاول، ومنها انتقل المسلمون إلى عمل الساعات، وأولها الساعة الدقاقة التي كانت تعمل بالماء، وقد أهدوْا شارلمان ملك فرنسا واحدة منها فقال: إن فيها شيطانًا، هكذا كان المسلمون الأوائل.وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان: 45] أي: أن الضوء هو الذي يدل على الظلِّ.{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)}.الحق تبارك وتعالى يُبيِّن الحركة البطيئة للظل فيقول: {قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46] لا تدركه أنت أبدًا؛ لأن في كل لحظة من لحظات الزمن حركة فلا يخلو الوقت مهما قَلَّ من الحركة، لكن ليس لديك المقياس الذي تدرك به بُطْءَ هذه الحركة.وقوله: {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} [الفرقان: 46] دليل على أن المسألة ليست ميكانيكًا، إنما هي بقيومية الله تعالى؛ لذلك فكأن الحق سبحانه يقول: يا عبادي ناموا مِلْءَ جفونكم، فربُّكم قيُّوم على مصالحكم لا ينام.وأهل المعرفة يستنبطون من ظاهرة الظل أسرارًا، فيروْنَ أن ظِلَّ الأشياء الشاهقة المتعالية يخضع لله تعالى، ويسجد على الأرض، رغم أنه متعالٍ شامخ، كما جاء في قوله سبحانه: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15].وقال سبحانه: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] فللظل حركة بطيئة لا يعلمها إلا الله؛ لأنك لا تدرك مدى صِغَرها؛ لذلك قُلْنا في الهباء: إنه نهاية ما يمكن أن يكون من التفتيت المنظور. اهـ.
|