الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وكما تقول أظلم الأمر وأنار، وقد تقدم اختلاف القراء في قوله: {نشرًا}، وقرأ الحسن وغيره، {يشركون} بالياء على الغيبة، وقرأ الجمهور {تشركون} على المخاطبة، وبدء الخلق اختراعه وإيجاده، و{الخلق} هنا المخلوق من جميع الأشياء لكن المقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة، والإعادة البعث من القبور ويحتمل أن يريد ب {الخلق} مصدر خلق يخلق ويكون في {يبدأ} {ويعيد} استعارة للإتقان والإحسان كما تقول فلان يبدي ويعيد في أمر كذا وكذا إذا كان يتقنه، والرزق {من السماء} بالمطر ومن {الأرض} بالنبات، هذا مشهور ما يحسه البشر، وكم لله من لطف خفي، ثم أمر عز وجل نبيه أن يوقفهم على أن {الغيب} مما انفرد الله بعلمه ولذلك سمي غيبًا لغيبه عن المخلوقين، ويروى أن هذه الآية من قولهم {قل لا يعلم}، إنما نزلت لأن الكفار سألوا وألحوا عن وقت القيامة التي يعدهم محمد فنزلت هذه الآية فيها التسليم لله تعالى وترك التحديد، فأعلم عز وجل أنه لا يعلم وقت الساعة سواه فجاء بلفظ يعم الساعة وغيرها، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون {أيان يبعثون} وبهذه الآية احتجت عائشة رضي الله عنها على قولها ومن زعم أن محمدًا يعلم الغيب فقد أعظم الفرية، والمكتوبة في قوله تعالى: {إلا الله} بدل من {من}، وقرأ جمهور الناس {أيان} بفتح الهمزة، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {إيان} بكسرها وهما لغتان، وقرأ جمهور القراء {بل ادارك} أصله تدارك أدغمت التاء في الدال بعد أن أبدلت ثم احتيج إلى ألف الوصل، وقرأ أبي بن كعب فيما روي عنه {تدارك} وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {بل ادرك} على وزن افتعل وهي بمعنى تفاعل، وقرأ سليمان بن يسار وعطاء بن يسار {بلَ ادّرك} بفتح اللام ولا همزة تشديد الدال دون ألف، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل مكة، {بل أدرك}، وقرأ مجاهد {أم أدرك} بدل {بل} وفي مصحف أبي بن كعب {أم تدارك علمهم} وقرأ ابن عباس {بل أدرك} وقرأ ابن عباس أيضًا {بل آدارك} بهمزة ومدة على جهة الإستفهام، وقرأ ابن محيصن {بل آدرك} على الاستفهام ونسبها أبو عمرو الداني إلى ابن عباس والحسن.فأما قراءة الاستفهام فهي على معنى الهزء بالكفر والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم أي أعلموا أمر الآخرة وأدركها علمهم؟ وأما القراءات المتقدمة فتحتمل معنيين أحدهما {بل أدرك علمهم} أي تناهى كما تقول أدرك النبات وغيره وكما تقول هذا ما أدرك علمي من كذا وكذا فمعناه قد تتابع وتناهى علمهم بالآخرة إلى أن لا يعرفوا لها مقدارًا فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتًا وكذلك ادرك وتدارك وسواها وإن جملت هذه القراءة معنى التوقيف والإستفهام ساغ وجاء إنكارًا لأن أدركوا شيئًا نافعًا، والمعنى الثاني بل أدرك بمعنى يدرك أي إنهم في الآخرة يدرك علمهم وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها وأما في الدنيا فلا. وهذا هو تأويل ابن عباس ونحى إليه الزجاج، فقوله: {في الآخرة} على هذا التأويل ظرف، وعلى التأويل الأول {في} بمعنى الباء، والعلم قد يتعدى بحرف الجر تقول علمي يزيد كذا ومنه قول الشاعر: الطويل: البيت، ثم وصفهم عز وجل بأنهم {في شك منها} ثم أردف بصفة هي أبلغ من الشك وهي العمى بالجملة عن أمر الآخرة، و{عمون} أصله عميون كحذرون وغيره. اهـ.
الثانية: وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر: «اللهم رحمتك أرجو فلا تَكِلْني إلى نفسي طَرْفة عين وأصلح لي شأني كلَّه لا إله إلا أنت».الثالثة: ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه؛ والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22] وقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم.وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65] فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه.وفي الحديث: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده» ذكره صاحب الشهاب؛ وهو حديث صحيح.وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: «واتَّق دعوةَ المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب» وفي كتاب الشهاب: «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» وهو صحيح أيضًا.وخرج الآجريِّ من حديث أبي ذَرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإني لا أردها ولو كانت من فم كافر» فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه، وإجابة لإخلاصه وإن كان كافرًا، وكذلك إن كان فاجرًا في دينه؛ ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته.وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له، أو اقتصاص منه، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عز وجل: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضًا} [الأنعام: 129] وأكد سرعة إجابتها بقوله: «تُحمل على الغمام» ومعناه والله أعلم أن الله عز وجل يوكِّل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام، فيعرجوا بها إلى السماء، والسماء قبلة الدعاء ليراها الملائكة كلهم، فيظهر منه معاونة المظلوم، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته، رحمة له.وفي هذا تحذير من الظلم جملة، لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره؛ حيث قال على لسان نبيه في صحيح مسلم وغيره: «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا» الحديث.فالمظلوم مضطر، ويقرب منه المسافر؛ لأنه منقطع عن الأهل والوطن، منفرد عن الصديق والحميم، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته، فتصدق ضرورته إلى المولى، فيخلص إليه في اللجاء، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه، وكذلك دعوة الوالد على ولده، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنَّته عليه وشفقته، إلا عند تكامل عجزه عنه، وصدق ضرورته؛ وإياسه عن بِرِّ ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته.
|