الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
(ثَانِيهُمَا) مَا رَوَاهُ عَنْهُ الْأَخِيرُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى حَيْثُ أُسْرِي بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ. وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ تَعَدُّدُ رُوَاتِهِ وَمُوَافَقَةُ التَّارِيخِ لَهُ كَمَا بَيَّنَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مِنْ جُزْءِ عم، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ أَشْهَرِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ مَا نَصُّهُ:وَقَالَ قَلِيلٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الْإِقْسَامَ هُوَ بِالنَّوْعَيْنِ لِذَاتِهِمَا التِّينِ وَالزَّيْتُونِ. قَالُوا: لِكَثْرَةِ فَوَائِدِهِمَا، وَلَكِنْ تَبْقَى الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ طُورِ سِينِينَ وَالْبَلَدِ الْأَمِينَ وَحِكْمَةِ جَمْعِهِمَا مَعَهُمَا فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَفْهُومَةٍ؛ وَلِهَذَا رَجَّحَ أَنَّهُمَا مَوْضِعَانِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ أَنَّهُمَا النَّوْعَانِ مِنَ الشَّجَرِ، وَلَكِنْ لَا لِفَوَائِدِهِمَا كَمَا ذَكَرُوا، بَلْ لِمَا يُذْكُرُ أَنَّ بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَهَا الْآثَارُ الْبَاقِيَةُ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ:إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُذَكِّرَنَا بِأَرْبَعَةِ فُصُولٍ مِنْ كِتَابِ الْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى يَوْمِ بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالتِّينُ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَسْتَظِلُّ فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا يُورِقُ التِّينُ، وَعِنْدَمَا بَدَتْ لَهُ وَلِزَوْجِهِ سَوْآتُهُمَا طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ. وَالزَّيْتُونُ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذُرِّيَّتِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ فَسَدَ الْبَشَرُ، وَأَهْلَكَ اللهُ مَنْ أَهْلَكَ مِنْهُ بِالطُّوفَانِ، وَنَجَّى نُوحًا فِي سَفِينَتِهِ وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ، نَظَرَ نُوحٌ إِلَى مَا حَوْلَهُ فَرَأَى الْمِيَاهَ لَا تَزَالُ تُغَطِّي وَجْهَ الْأَرْضِ فَأَرْسَلَ بَعْضَ الطُّيُورِ لَعَلَّهُ يَأْتِي إِلَيْهِ بِخَبَرِ انْكِشَافِ الْمَاءِ عَنْ بَعْضِ الْأَرْضِ فَغَابَ وَلَمْ يَأْتِ بِخَبَرٍ، فَأَرْسَلَ طَيْرًا آخَرَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ يَحْمِلُ وَرَقَةً مِنْ شَجَرِ الزَّيْتُونِ فَاسْتَبْشَرَ وَسُرَّ وَعَرَفَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ قَدْ سَكَنَ، وَقَدْ أُذِنَ لِلْأَرْضِ أَنْ تُعَمَّرَ. ثُمَّ كَانَ مِنْهُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ تَجْدِيدُ الْقَبَائِلِ الْبَشَرِيَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي مُحِيَ عُمْرَانُهَا بِالطُّوفَانِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَنِ بِزَمَنِ الزَّيْتُونِ. وَالْإِقْسَامُ هُنَا بِالزَّيْتُونِ لِلتَّذْكِيرِ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ مَا يُذَكَّرُ بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَطُورُ سِينِينَ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ الشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَظُهُورِ نُورِ التَّوْحِيدِ فِي الْعَالَمِ بَعْدَ مَا تَدَنَّسَتْ جَوَانِبُ الْأَرْضِ بِالْوَثَنِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ مُوسَى يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرُهُمْ عِيسَى صلى الله عليه وسلم جَاءَ مُخْلِصًا لِرُوحِهَا مِمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ، ثُمَّ طَالَ الْأَمَدُ عَلَى قَوْمِهِ فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، وَحَجْبِ نُورِهِ بِالْبِدَعِ، وَإِخْفَاءِ مَعْنَاهُ بِالتَّأْوِيلِ، وَإِحْدَاثِ مَا لَيْسَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ، فَمَنَّ اللهُ عَلَى الْبَشَرِ بِبِدَايَةِ تَارِيخٍ يَنْسَخُ جَمِيعَ تِلْكَ التَّوَارِيخِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ مَا سَبَقَ مِنْ أَطْوَارِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يَلْحَقُ، وَهُوَ عَهْدُ ظُهُورِ النُّورِ الْمُحَمَّدِيِّ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِذِكْرِ الْبَلَدِ الْأَمِينِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي فَصَّلْنَا بَيَانَهُ يَتَنَاسَبُ الْقَسَمُ وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ كَمَا سَتَرَى انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.وَمِنْ هَذَا الشَّرْحِ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ التُّرْكِيَّ عَلَى عِلْمٍ لَا يُشَارِكُهُ مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مُصِيبٌ فِي تَقْدِيرِ زَمَنِ الْجَوَابِ بِنِصْفِ سَاعَةٍ، كَمَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ التُّرْكِيَّةَ لَنْ تَكُونَ إِلَّا قَاصِرَةً عَنِ احْتِمَالٍ مِثْلِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَنَّهَا تَمْهِيدٌ لِلْإِضْلَالِ وَالتَّكْفِيرِ.سُبْحَانَ اللهِ! أَنَشُكُّ فِي كَوْنِ مُرَادِ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ التَّوَسُّلَ بِهَا إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَالتَّشْكِيكَ فِي كَوْنِهِ كَلَامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِقَامَةَ الشُّبَهَاتِ عَلَى بُطْلَانِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُ فِيهَا بَصِيصًا مِنَ النُّورِ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى الدِّفَاعِ عَنْ دِينِهِ؟ أَنَشُكُّ فِي هَذَا بَعْدَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى إِبْطَالِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ حُكُومَتِهِمْ حَتَّى فِي الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ مِنْ زَوَاجٍ وَطَلَاقٍ وَإِرْثٍ، تَفْضِيلًا لِلتَّشْرِيعِ الْأُورُبِّيِّ عَلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِهِ، وَإِبْطَالِ التَّعْلِيمِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَاضْطِهَادِ عُلَمَاءِ الدِّينِ حَتَّى فِي مَلَابِسِهِمْ، فَقَدْ أَكْرَهُوهُمْ عَلَى لُبْسِ الزِّيِّ الْخَاصِّ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ كَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُبَالُوا بِمُرَاعَاةِ وِجْدَانِ أَحَدٍ وَلَا اعْتِقَادِهِ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ آيَةُ الرِّدَّةِ عَنْ دِينِهِ- فَعَلُوا هَذَا وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ يَدِينُ لِلَّهِ بِالْإِسْلَامِ وِجْدَانًا وَتَسْلِيمًا يَحْمِلُهُ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَيَزِعُهُ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَلِعُلَمَاءِ الدِّينِ احْتِرَامٌ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ دِينِ الشَّعْبِ بِكَلِمَةٍ مَعَ كَوْنِ مَادَّةِ الْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ لِلْجُمْهُورِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ دِينَ الدَّوْلَةِ هُوَ الْإِسْلَامُ لَمَّا تُنْسَخُ- كَمَا نُسِخَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ نَفْسُهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ عَارَضَ الْحُكُومَةَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهَا هَذِهِ يُسَاقُ إِلَى مَحْكَمَةٍ خَاصَّةٍ تُسَمَّى مَحْكَمَةَ الِاسْتِقْلَالِ، مُفَوَّضَةٌ بِأَنْ تَحْكُمَ بِالْقَتْلِ لِلدِّفَاعِ عَنْ هَذِهِ الْحُكُومَةِ اللَّادِينِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى شَرْعٍ مُنَزَّلٍ، وَلَا قَانُونٍ مُدَوَّنٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا نِهَائِيًّا لَا اسْتِئْنَافَ لَهُ، وَلَا مُرَاجَعَةَ فِيهِ، وَقَدْ قُتِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ لِلْمُعَارَضَةِ فِي وَضْعِ الْقَلَنْسُوَةِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ الْبُرْنِيطَةِ مَوْضِعَ الْعِمَامَةِ وَاسْتِبْدَالِهَا بِهَا؟!.هَذَا مَا يَجْرِي الْيَوْمَ فَمَاذَا يَكُونُ فِي الْغَدِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُسْلِمُ التُّرْكِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي بِلَادِهِ مَنْ كُتُبِ دِينِهِ إِلَّا تَرْجَمَةً لِلْقُرْآنِ بِالصِّفَةِ الَّتِي عَرِفْتَ أَغْلَاطَهَا وَقُصُورَهَا؟ نَعَمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ أَنْفُسَهُمْ سَيُفَسِّرُونَهَا لَهُ بِمَا يَزِيدُهُ بُعْدًا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَيُعِدُّهُ لِلْكُفْرِ بِهِ وَعَدَاوَتِهِ وَعَدَاوَةِ أَهْلِهِ، إِنْ طَالَ أَمْرُ اسْتِبْدَادِهِمْ فِيهِ.لَا تَقُلْ: وَمَا يَمْنَعُ بَقِيَّةُ أَهْلِ الدِّينِ مِنْهُمْ أَنْ يُفَسِّرُوهَا بِالتُّرْكِيَّةِ تَفْسِيرًا يُصَحِّحُ الْأَغْلَاطَ وَيَدْفَعُ الشُّبَهَاتِ؟ فَإِنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا مَا عَلِمَتْ يَمْنَعُونَ هَذَا أَيْضًا، وَيَنْشُرُونَ تَفَاسِيرَ مَلَاحِدَتِهِمُ الْمُؤَيِّدَةَ لِغَرَضِهِمْ، وَهُمْ يَسْتَمِدُّونَهَا مِنْ خُصُومِ الْإِسْلَامِ كَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَشَيَاطِينِ السِّيَاسَةِ الْأُورُبِّيَّةِ، وَمَلَاحِدَةِ الْمَادِّيَّةِ، دَعْ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِمُ الْجَهْلُ أَوِ الْكُفْرُ.أَذْكُرُ مِثَالًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (15: 99) بَلَغَنِي مِنْ عَالَمٍ عَرَبِيٍّ أَقَامَ فِي الْآسِتَانَةِ سِنِينَ كَثِيرَةً يُخَالِطُ عُلَمَاءَهُمْ عَنْ عَالِمٍ تُرْكِيٍّ أَعْرِفُهُ، وَكُنْتُ أُعِدُّهُ مِنْ أَفْضَلِ عُلَمَائِهَا الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّدَيُّنِ وَمَعْرِفَةِ حَالِ الْعَصْرِ أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِ الْبَاطِنِيَّةِ الْأَوَّلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ: أَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ لَمْ تُفْرَضْ إِلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يَصِلُوا فِي الْعِلْمِ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْعِبَادَةُ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَكْفِي هَذَا التَّأْوِيلُ لِإِبْطَالِ جَمِيعِ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ الْيَقِينَ أَمْرٌ يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَيُمْكِنُ إِضْلَالُ جَمَاهِيرِ النَّاسِ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَفِي التَّحَكُّمِ فِيمَا يَطْلُبُ الْيَقِينُ فِيهِ.وَنَقُولُ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الضَّلَالَةِ:(أَوَّلًا): إِنَّهَا طَعْنٌ صَرِيحٌ فِي النَّبِيِّ الْأَعْظَمِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَامًا، وَذَلِكَ بِالتَّبَعِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِإِيتَائِهِ السَّبْعَ الْمَثَانِ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالصَّدْعِ بِهِ، وَتَهْوِينِ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْبَائِهِ بِكِفَايَتِهِ تَعَالَى أَمْرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْهُمْ. بَعْدَ هَذَا قَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (15:- 97- 99) وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ الْمَوْتُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَنَقَلُوا شَوَاهِدَ لَهُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ. وَفَسَّرُوا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} (74: 46، 47).(ثَانِيًا) إِنَّ أَصْلَ الْيَقِينِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ فَالْيَقِينُ فِي الْإِسْلَامِ مَبْدَأٌ لَا غَايَةٌ، وَالْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ تَلْقَى هَذَا التُّرْكِيُّ الدِّينَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ يَقِينًا لَا يَكُونُ إِيمَانًا، وَلَيْسَ فَوْقَ الْيَقِينِ غَايَةٌ تَكُونُ هِيَ الزِّيَادَةَ، وَفِي هَذَا الْبَحْثِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ.(ثَالِثًا) إِنَّ الْيَقِينَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ تَصْدِيقُ الْإِنْسَانِ فِي الدِّينِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْإِتْيَانِ وَنَحْوِهُ كَالْمَجِيءِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ، وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ بِهِ عَمَّا يَرُدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْخَارِجِ بِذَاتِهِ أَوْ بِأَسْبَابِهِ كَالْمَوْتِ وَالْعِلْمِ الْخَبَرِيِّ، أَوِ الْمُنْتَزَعِ مِنَ الْمَعْلُومِ الْخَارِجِيِّ، دُونَ نَتِيجَةِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} كَقَوْلِهِ: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} (14: 17) وَقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (63: 10) وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (6: 61).وَنَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الِاسْتِطْرَادِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مَا يُدَافِعُ بِهِ عَنْهُ، بَلْ هُوَ مِنْ مَقَاصِدَ التَّفْسِيرِ لَا مِنَ الِاسْتِطْرَادِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ. وَمَا ضَعُفَ اهْتِدَاءُ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ إِلَّا بِخُلُوِّ تَفْسِيرِهِ مِنْ تَطْبِيقِ عَقَائِدِهِ وَأَحْكَامِهِ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَدَفْعِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تَصُدُّهُمْ عَنْهُ. اهـ.
|