الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذه صحف التاريخ التي سجّلت هذه الأحداث في وقتها، لا تزال بين يدى أهلها، الذين ليس لهم مصلحة في أن يقيموا تاريخهم على ما يطابق أخبار القرآن، ويجىء مصدّقا له.والثابت في هذا التاريخ، أنه في سنة 614 من الميلاد كانت تدور معركة بين القرس والروم، وقد بدأت طلائع الهزيمة تنزل بالروم، فاستولى الفرس على أنطاكية، وهى من كبريات المدن الشرقية للدولة الرومانية، ثم استولوا بعد ذلك على دمشق، ثم على بيت المقدس ذاتها، وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا كنيسة القيامة.وعام 614 من الميلاد واقع بعد بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم، وسابق لهجرته صلوات اللّه وسلامه عليه.وطبيعى أن أنباء هذه المعركة، لم تصل إلى مكة في يومها، وربّما يكون ذلك بعد عام أو أقل من عام، وإن لنا أن نفترض أنه في عام 615 من الميلاد كان نزول هذه الآيات التي نزلت بها أول سورة الروم، لتلتقى مع هذا الحدث، ووقعه على المسلمين والمشركين في مكة.وقد حدّدت الآيات أنه بعد بضع سنين سيكون الغلب للروم. وإذا كان البضع بين ثلاث إلى عشر. فاسمع ما جرى، وما تحدث به صحف التاريخ الرومانىّ.تقول تلك الصحيفة: إنه في سنة 622 من الميلاد- أي بعد سبع أو ثمانى سنين من حرب الروم والفرس، بدأت المعارك بين الروم والفرس مرة أخرى، وكان هذا إرهاصا- عند من يرقب الأحداث- بأن ما تحدّث به القرآن عن هاتين الدولتين يمكن أن يقع على ما أخبر به!.ومع هذا، فإن المشركين حين بلغتهم أنباء هذه المعارك، كانوا يتوقعون النصر للفرس، ولهذا، فإن أبىّ بن خلف حين علم بهجرة أبى بكر طلب إلى عبد اللّه بن أبى بكر أن يكون كفيلا لأبيه في أداء ما خاطره به، إذا غلبت الفرس، وقد قبل عبد اللّه بن أبى بكر هذا.وفي عام 624 من الميلاد، كانت معركة بدر، وحين خرج أمية بن خلف فيمن خرج من المشركين لحرب النبي والمسلمين، أمسك به عبد اللّه بن أبى بكر عن الخروج، إلا أن يقيم كفيلا يؤدى عنه ما خاطر عليه أبا بكر إذا انهزمت الفرس، وغلبت الروم، فأقام كفيلا له.وهذا يعنى أن الحرب التي بدأت بين الدولتين في سنة 622، كانت ما تزال قائمة لم تنته بعد إلى نتيجة حاسمة، أو أنها قد تكون قد انتهت، ولكن أخبارها لم تكن قد وصلت إلى أهل مكة.وعلى أي فإنه لم يكد المسلمون يفرغون من المشركين في معركة بدر، ويأخذون طريقهم إلى المدينة، وفي قلوبهم فرحة النصر، وفي أيديهم ما وقع لهم من مغانم- حتى يلقاهم على طريق المدينة من يخبرهم بما انتهى إليه أمر القتال الذي كان دائرا بين الفرس والروم، وأن الروم قد هزموا الفرس، وأخرجوهم من بيت المقدس، وما استولوا عليه من بلاد الروم، كما استولوا على كثير من مدن فارس وأقاليمها. وبهذا جاءت فرحة المسلمين بهذا النصر الذي مكن لهم من رقاب المشركين يوم بدر- جاءت هذه الفرحة موقوتة بالوقت الذي نطقت به الآيات في قوله تعالى: {وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمنُونَ بنَصْر اللَّه} أي أن يوم غلبة الروم للفرس، سيكون في هذا اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وتمتلئ قلوبهم فرحة بهذا النصر العظيم. فالنصر الذي يفرح به المؤمنون حقّا، هو نصرهم على المشركين من أهل مكة، الذين سخروا منهم، وصبّوا عليهم ألوان البلاء، وأخرجوهم من ديارهم. وهذا هو نصر اللّه الذي وعدهم به، ووقّت له غلبة الروم للفرس! وهذا هو السرّ- واللّه أعلم- في هذا الذي جاء عليه النظم القرآني، من التعبير عن الصراع بين الفرس والروم بالغلب والتغالب، على حين جاء التعبير عن غلبة المسلمين للمشركين، بكلمة النصر. فهو نصر لدين اللّه، ونصر للحق في أعلى منازله. إنه صراع بين إيمان خالص وشرك صريح.فإذا غلب لإيمان الشرك، فهو نصر للحياة، وللإنسانية كلها، وحقّ له أن يضاف إلى اللّه: {وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمنُونَ بنَصْر اللَّه}.أما الصراع الذي كان دائرا بين الروم والفرس، فلم يكن قتالا في سبيل اللّه، ولا انتصارا لدين اللّه، وإنما كان قتالا على سلطان، وتقاتلا على سلطة، تتنازعها لدولتان منذ قرون طويلة.أما التفات الدعوة الإسلامية إلى هذا الصراع، فلم يكن إلا ردّا على ما تنادى به المشركون في مكة، وما استقبلوا به أخبار انتصار الفرس وهزيمة الروم، فاتخذوا من الفرس جبهة لهم، على حين عدّوا جبهة الروم المهزومة جبهة للمسلمين. ولهذا جاء قوله تعالى: {غُلبَت الرُّومُ في أَدْنَى الْأَرْض وَهُمْ منْ بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ في بضْع سنينَ للَّه الْأَمْرُ منْ قَبْلُ وَمنْ بَعْدُ} جاء خبرا حياديّا، يحدث عن الواقع الذي سيقع بعد بضع سنين، ليقطع على المشركين فرحتهم التي اصطنعوها من هذا الخبر الذي جاهم بنصر الفرس، وليقول لهم: لا تفرحوا لأمر تستقبلون أوله، ولا تدرون ما يقع في آخره. فهذا الغلب الذي تفرحون به، هو غلب موقوت ستعقبه هزيمة خلال بضع سنين! ولهذا جاه قوله تعالى بعد ذلك:{وَلكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهرًا منَ الْحَياة الدُّنْيا} فهذا للقول وإن كان تعقيبا واقعا على قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّه لا يُخْلفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} فإنه يشير من طرف خفيّ إلى قصر أنظار المشركين، وأنهم لا تمدون أبصارهم إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ولو أنهم أحسنوا النظر إلى هذا النبأ الذي جاءهم بغلبة الفرس، لما استبدّ بهم الفرح، ولعلموا أن الغلب قد تعقبه هزيمة، وأن الهزيمة قد يتلوها غلب. هكذا تجرى أمور الناس في هذه الحياة: {وَتلْكَ الْأَيَّامُ نُداولُها بَيْنَ النَّاس}. ولكن القوم- لجهلهم، وعمى بصائرهم- لا يقفون من الأمور إلا عند ظواهرها، ولا يأخذون منها إلا ما يلقاهم على يومهم. وهذا شأنهم في دينهم الذي يدينون به. إنهم أحلوا أنفسهم من كلّ شيء يشغلهم عن حياتهم الدنيا، فهي يومهم الذي لا يوم لهم بعده. أما الآخرة، فلا شأن لهم بها. إنهم في غفلة عن كلّ أمر يصلهم بها، وفي صمم عن كل حديث يلقى إليهم عنها.قوله تعالى: {غُلبَت الرُّومُ في أَدْنَى الْأَرْض وَهُمْ منْ بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ}.المراد بأدنى الأرض، أقربها، وهى أقرب البلاد من مملكة الروم الشاسعة، إلى جزيرة العرب، وهى تلك البلاد الواقعة في المناطق الشرقية من مملكة الروم. كدمشق وبيت المقدس وغيرها.{في بضْع سنينَ}.هو تحديد للوقت الذي يقع فيه هذا الخبر. والبضع من السنين ما بين الثلاث إلى العشر.{للَّه الْأَمْرُ منْ قَبْلُ وَمنْ بَعْدُ} أي أن الأمر كله للّه، من قبل الغلب ومن بعده. فما غلب الغالبون إلا بأمر اللّه، وعن إرادته ومشيئته. وما سيغلب المنهزمون إلا بأمر اللّه، وعن إرادته ومشيئته {قُلْ كُلّ منْ عنْد اللَّه} (78: النساء).{وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمنُونَ بنَصْر اللَّه} أي في هذا الوقت الذي يقع فيه هذا الخبر، وهو غلبة الروم للفرس، سيقع أمر أهمّ وأعظم، وهو انتصار المسلمين على المشركين، حيث يمدهم اللّه بنصره، ويمنحهم عونه وتأييده، فتمتلئ بالفرحة صدورهم، وتخفق بالرضا والسرور قلوبهم.{يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزيزُ الرَّحيمُ}. فالنصر بيد اللّه وحده، ليس لأحد شركة مع اللّه فيه، فهو العزيز ذو القوة والبأس، الرحيم الذي يوسع من رحمته لعباده المؤمنين، فيعزهم بعزته.{وَعْدَ اللَّه لا يُخْلفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يَعْلَمُونَ}.{وَعْدَ اللَّه} مفعول به لفعل محذوف، تقديره: صدّقوا وعد اللّه، أو استيقنوا وعد اللّه. ونحو هذا.وقوله تعالى: {وَلكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون هذه الحقيقة، وهى أن اللّه لا يخلف وعده. والمراد بأكثر الناس هنا هم المشركون والضالون، الذين لا يؤمنون باللّه. فهؤلاء هم أكثرية الناس. وهم لا يصدقون ما تتحدث به إليهم آيات اللّه، عن اللّه، لأنهم لا يقدرون اللّه حق قدرة، ولا يعلمون ما ينبغي أن يكون له سبحانه من صفات الكمال والجلال.{يَعْلَمُونَ ظاهرًا منَ الْحَياة الدُّنْيا وَهُمْ عَن الْآخرَة هُمْ غافلُونَ}.هذا هو علم المشركين، والضالين المكذبين باللّه. إن علمهم محصور فيما يتعلق بأمور الدنيا، وما هم فيه من لهو ومتاع بها.وفي قوله تعالى: {ظاهرًا منَ الْحَياة الدُّنْيا} إشارة إلى أن العلم في ذاته مطلوب، لكل أمر يعالجه الإنسان. وأن العلم- حيث كان- نور يهدى صاحبه، ويكشف له معالم الطريق إلى الخير والحق. هذا إذا كان العلم قائما على نظر سليم، وإدراك صحيح، وإلا فهو سراب يخدع صاحبه، ويضله عن سواء السبيل.وعلم هؤلاء المشركين، الضالين، المكذبين باللّه- مع أنه مقصور على هذه الحياة الدنيا- هو علم يقف عند ظاهر الأمور فيها، ولا ينفذ إلى الصميم منها. ومن هنا ينخدع هؤلاء الضالون بهذا العلم الذي لا يمسك من الأشياء إلا ببريقها، ولمعانها، فيندفعون به إلى مواقع الهلاك، كما يندفع الفراش إلى النار، مأخوذا بضوئها، مبهورا بألسنة لهيبها.أما العلم الحقيقي بالحياة الدنيا، وبما فيها من آيات اللّه المبثوثة في كل ذرة من ذراتها، وما أودع اللّه سبحانه في الكائنات من أسرار، فذلك علم من شأنه أن يفتح مغالق العقول، ويضيء جوانب البصيرة، ويهدى صاحبه إلى كل ما هو حق وخير.وبهذا العلم، يرى العالم قدرة اللّه، ويتعرف إلى بعض ماله سبحانه من علم وحكمة، فيؤمن باللّه، ويؤمن بما أرسل اللّه من رسل، وما أنزل من كتب. وبهذا العلم يصل العالم بين الدنيا والآخرة، فيعمل لهما معا. إذ لا تعارض بين الدنيا والآخرة، عند من يعلم حقيقة الدنيا، ومكانها من الآخرة. اهـ.
|