الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقرأ أبو حيوة، ومحمد بن السميفع، وسماك بن حرب بضمها، وهو مصدر.{فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} تفدون بها أنفسكم من النار أيها المنافقون {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} بالله ظاهرًا وباطنًا {مَأْوَاكُمُ النار} أي: منزلكم الذي تأوون إليه النار {هِىَ مولاكم} أي: هي أولى بكم، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن يلازمه، وقيل: معنى {مولاكم}: مكانكم عن قرب، من الولي، وهو القرب.وقيل: إن الله يركب في النار الحياة والعقل، فهي تتميز غيظًا على الكفار، وقيل المعنى: هي ناصركم على طريقة قول الشاعر:
{وَبِئْسَ المصير} الذي تصيرون إليه وهو النار.وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن مسعود {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرّون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورًا من نوره على إبهامه يطفأ مرّة، ويوقد أخرى.وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورًا، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون: {ارجعوا وَرَاءكُمْ} من حيث جئتم من الظلمة {فالتمسوا} هنالك النور.وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترًا منه على عباده، وأما عند الصراط، فإن الله يعطى كل مؤمن نورًا، وكل منافق نورًا، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} وقال المؤمنون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] فلا يذكر عند ذلك أحد أحدًا» وفي الباب أحاديث وآثار.وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت: أنه كان على سور بيت المقدس، فبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن السور الذي ذكره الله في القرآن {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} هو: السور الذي ببيت المقدس الشرقي {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} المسجد {وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب} يعني: وادي جهنم، وما يليه.ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال، ولا سيما بعد زيادة قوله: {باطنة فيه الرّحمة} المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية، وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين، وأيّ معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس، ويجعله في الدار الآخرة سورًا مضروبًا بين المؤمنين والمنافقين، فما معنى تفسير باطن السور، وما فيه من الرّحمة بالمسجد، وإن كان المراد: أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس، فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد، ويجعل المنافقين خارجه، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة، وليسوا ببيت المقدس، فإن كان مثل هذا التفسير ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه، وآمنا به، وإلاّ فلا كرامة ولا قبول.وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} قال: بالشهوات واللذات {وَتَرَبَّصْتُمْ} قال: بالتوبة {وَغرَّتْكُمُ الأمانى حتى جَاء أَمْرُ الله} قال: الموت {وَغَرَّكُم بالله الغرور} قال: الشيطان. اهـ.
وضمن {ضُرب} في الآية معنى الحجْز فعدي بالباء، أي ضرب بينهم سورٌ للحجز به بين المنافقين والمؤمنين، خلقه الله ساعتئذٍ قطعًا لأطماعهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فَحَق بذلك التمثيل الذي مثّل الله به حالهم في الدنيا بقوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} في سورة البقرة (17).وأن الحيرة وعدم رؤية المصير عذاب أليم.ولعل ضرب السور بينهم وجعْلَ العذاببِ بظاهره والنعيم بباطنه قصد منه التمثيل لهم بأن الفاصل بين النعيم والعذاب هو الأعمال في الدنيا وأن الأعمال التي يعملها الناس في الدنيا منها ما يفضي بعامله إلى النعيم ومنها ما يفضي بصاحبه إلى العذاب فأحد طرفي السور مثال لأحد العملين وطرفه الآخر مثال لضده.والباب واحد وهو الموت، وهو الذي يسلك بالناس إلى أحد الجانبين.ولعل جعل الباب في سور واحد فيه مع ذلك ليمر منه أفواج المؤمنين الخالصين من وجود منافقين بينهم بمرأى من المنافقين المحبوسين وراء ذلك السور تنكيلًا بهم وحسرة حين يشاهدون أفواج المؤمنين يفتح لهم الباب الذي في السور ليجتازوا منه إلى النعيم الذي بباطن السور.وركَّب القصَّاصُون على هذه الآية تأويلات موضوعة في فضائل بلاد القُدس بفلسطين عَزوها إلى كعببٍ الأحْبارِ فسموا بعض أبواب مدينة القدس باب الرحمة، وسموا مكانًا منها وادي جهنم، وهو خارج سور بلاد القدس، ثم ركبوا تأويل الآية عليها وهي أوهام على أوهام.واعلم أن هذا السور المذكور في هذه الآية غير الحجاب الذي ذكر في سورة الأعراف.وضمائر {له باب} و{باطنه} و{ظاهره} عائدة إلى السور، والجملتان صفتان لـ: {سور}.وإنما عطفت الجملة الثالثة بالواو لأن المقصود من الصفة مجموع الجملتين المتعاطفتين كقوله تعالى: {ثيبات وأبكارًا} [التحريم: 5].والباطن: هو داخل الشيء، والظاهر: خارجه.فالباطن: هو داخل السور الحاجز بين المسلمين والمنافقين وهو مكان المسلمين.والبطون والظهور هنا نسبيان، أي باعتبار مكان المسلمين ومكان المنافقين، فالظاهر هو الجهة التي نحو المنافقين، أي ضُرب بينهم بسور يشاهِد المنافقون العذاب من ظاهره الذي يواجههم، وأن الرحمة وراء ما يليهم.و (قبل) بكسر ففتح، الجهةُ المقابلة، وقوله: {من قلبه} خبر مقدم، و{العذاب} مبتدأ والجملة خبر عن {ظاهره}.و{مِنْ} بمعنى (في) كالتي في قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] فتكون نظير قوله: {باطنه فيه الرحمة}.والعذاب: هو حرق جهنم فإن جهنم دار عذاب، قال تعالى: {إن عذابها كان غَرامًا} [الفرقان: 65].وجملة {ينادونهم} حال من {يقول المنافقون والمنافقات}.وضمائر {ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى} تعرف مراجعُها مما تقدم من قوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات} الآية.
|