الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و{أن} مفعول من أجله، والميد الاضطراب، وقوله: {أنهارًا} منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو وخلق أنهارًا.قال القاضي أبو محمد: وإجماعهم على إضمار هذه الفعل دليل على خصوص لـ {ألقى} ولو كانت {ألقى} بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار، والسبل الطرق، وقوله: {لعلكم تهتدون} في مشيكم وتصرفكم في السبل، ويحتمل {لعلكم تهتدون} بالنظر في هذه المصنوعات على صانعها، وهذا التأويل هو البارع، أي سخر وألقى وجعل أنهارًا وسبلًا لعل البشر يعتبر ويرشد ولتكون علامات.{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)}.{عَلامات} نصب على المصدر، أي فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها {وعلامات} أي عبرة وإعلامًا في كل سلوك، فقد يهتدي بالجبال والأنهار والسبل، واختلف الناس في معنى قوله: {وعلامات} على أن الأظهر عندي ما ذكرت، فقال ابن الكلبي: العلامات الجبال، وقال إبراهيم النخعي ومجاهد: العلامات النجوم، ومنها ما سمي علامات ومنها ما يهتدي به، وقال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار، والنجوم هداية الليل.قال القاضي أبو محمد: والصواب إذا قدرنا الكلام غير معلق بما قبله أن اللفظة تعم هذا وغيره، وذلك أن كل ما دل على شيء وأعلم به فهو علامة، وأحسن الأقوال المذكورة، قول ابن عباس رضي الله عنه: لأنه عموم في المعنى فتأمله، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع بعض أهل العلم بالمشرق يقول: إن في بحر الهند الذي يجري فيه من اليمن إلى الهند حيتانًا طوالًا رقاقًا كالحيات في التوائها وحركاتها وألوانها، وإنها تسمى علامات، وذلك أنها علامة الوصول إلى بلد الهند، وأمارة إلى النجاة والانتهاء إلى الهند لطول ذلك البحر وصعوبته، وإن بعض الناس قال: إنها التي أراد الله تعالى في هذه الآية.قال القاضي أبو محمد: قال أبي رضي الله عنه: وأما من شاهد تلك العلامات في البحر المذكور وعاينها فحدثني منهم عدد كثير، وقرأ الجمهور: {وبالنجم} على أنه اسم الجنس، وقرأ يحيى بن وثاب {وبالنُّجْم} بضم النون والجيم ساكنة على التخفيف من ضمها، وقرأ الحسن {وبالنُّجم} بضم النون وذلك جمع، كسقف وسقف، ورهن ورهن، ويحتمل أن يراد وبالنجوم، فحذفت الواو.قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي توجيه ضعيف، وقال الفراء: المراد الجدي والفرقدان، وقال غيره: المراد القطب الذي لا يجري وقال قوم: غير هذا، وقال قوم: هو اسم الجنس وهذا هو الصواب، ثم قررهم على التفرقة بين من يخلق الأشياء ويخترعها وبين من لا يقدر على شيء من ذلك، وعبر عن الأصنام ب {من} لوجهين، أحدهما أن الآية تضمنت الرد على جميع من عبد غير الله، وقد عبرت طوائف من تقع عليه العبارة ب {من}، والآخر أن العبارة جرت في الأصنام بحسب اعتقاد الكفرة فيها في أن لها تأثيرًا وأفعالًا، ثم وبخهم بقوله: {أفلا تذكرون}، وقوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} أي إن حاولتم إحصاءها وحصرها عددًا حتى يشذ شيء منها لم تقدروا على ذلك، ولا اتفق لكم إحصاؤها إذ هي في كل دقيقة من أحوالكم،، والنعمة هنا مفردة يراد بها الجمع، وبحسب العجز عن عد نعم الله يلزم أن يكون الشاكر لها مقصرًا عن بعضها، فلذلك قال عز وجل: {إن الله لغفور رحيم} أي تقصيركم في الشكر عن جميعها، نحا هذا المنحى الطبري، ويرد عليه أن نعمة الله تعالى في قول العبد: الحمد لله رب العالمين مع شروطها من النية والطاعة يوازي جميع النعم، ولكن أين قولها بشروطها؟ والمخاطبة بقوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} عامة لجميع الناس. اهـ.
{أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي لئلا تَميد؛ عند الكوفيين.وكراهية أن تميد؛ على قول البصريين.والمَيْد: الاضطراب يمينًا وشمالًا؛ ماد الشيء يميد ميدًا إذا تحرك؛ ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر.قال وهب بن مُنَبِّه: خلق الله الأرض فجعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرّة أحدًا على ظهرها فأصبحت وقد أرْسِيت بالجبال، ولم تدر الملائكة ممّ خلقت الجبال.وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لما خلق الله الأرض قَمَصَت ومالت وقالت: أيْ رَب أتجعل عليّ من يعمل بالمعاصي والخطايا، ويلقي عليّ الجِيف والنّتْن! فأرسى الله تعالى فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون.وروى الترمذيّ في آخر {كتاب التفسير} حدّثنا محمد بن بشار حدّثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوّام بن حَوْشَب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تَمِيد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرّت فعجب الملائكة من شدّة الجبال فقالوا يا رَبّ هل مِن خلقك شيء أشدّ من الجبال قال نعم الحديد قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشدّ من الحديد قال نعم النار فقالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشدّ من النار قال نعم الماء قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشدّ من الماء قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشدّ من الريح قال نعم ابنُ آدم تصدّق بصدقة بيمينه يخفيها من شماله».قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه.قلت: وفي هذه الآية أدلّ دليل على استعمال الأسباب، وقد كان قادرًا على سكونها دون الجبال.وقد تقدّم هذا المعنى.{وَأَنْهَارًا} أي وجعل فيها أنهارًا، أو ألقى فيها أنهارًا.{وَسُبُلًا} أي طُرُقًا ومسالك.{لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي إلى حيث تقصِدون من البلاد فلا تضلون ولا تتحيّرون.{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)}.فيه ثلاث مسائل:الأولى قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ} قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار؛ أي جعل للطرق علامات يقع الاهتداء بها.{وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} يعني بالليل، والنجمُ يراد به النجوم.وقرأ ابن وَثّاب {وبِالنُّجْم}.الحسن: بضم النون والجيم جميعًا ومراده النجوم، فقصره؛ كما قال الشاعر: وكذلك القول لمن قرأ: {النُّجْم} إلا أنه سَكّن استخفافًا.ويجوز أن يكون النُّجُم جمعَ نَجْم كسَقْف وسُقُف.واختلف في النجوم؛ فقال الفراء: الجَدْي والفرقدان.وقيل: الثريا.قال الشاعر: أي منه ملوِيّ ومنه محصود، وذلك عند طلوع الثريا يكون.وقال الكَلْبِيّ: العلامات الجبال.وقال مجاهد: هي النجوم؛ لأن من النجوم ما يهتدَى بها، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها؛ وقاله قَتادة والنَّخَعِيّ.وقيل: تم الكلام عند قوله: {وعلاماتٍ} ثم ابتدأ وقال: {وبِالنَّجْمِ هم يهتدون}.وعلى الأوّل: أي وجعل لكم علامات ونجومًا تهتدون بها.ومن العلامات الرياح يهتدى بها.وفي المراد بالاهتداء قولان: أحدهما في الأسفار، وهذا قول الجمهور.الثاني في القِبْلة.وقال ابن عباس: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} قال: «هو الجَدْيُ يابن عباس، عليه قبلتكم وبه تهتدون في بَرِّكم وبحركم» ذكره الماورديّ.الثانية قال ابن العربيّ: أما جميع النجوم فلا يهتدِي بها إلا العارف بمطالعها ومغاربها، والفرق بين الجنوبي والشمالي منها، وذلك قليل في الآخرين.وأما الثُّرَيّا فلا يهتدي بها إلا مَن يهتدي بجميع النجوم.وإنما الهَدْي لكل أحد بالجَدْي والفَرْقَدين؛ لأنها من النجوم المنحصرة المطالع الظاهرة السَّمْت الثابتة في المكان، فإنها تدور على القطب الثابت دورانا محصّلًا، فهي أبدًا هَدْيُ الخلق في البَرّ إذا عميت الطرق، وفي البحر عند مجرى السفن، وفي القِبْلة إذا جهل السَّمْت، وذلك على الجملة بأن تجعل القطب على ظهر منكبك الأيسر فما استقبلت فهو سَمْت الجهة.قلت: وسأل ابنُ عباس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن النجم فقال: «هو الجَدْي عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم» وذلك أن آخر الجدي بنات نَعْش الصغرى والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينها.الثالثة قال علماؤنا: وحكم استقبال القبلة على وجهين: أحدهما أن يراها ويعاينها فيلزمه استقبالها وإصابتها وقصد جهتها بجميع بدنه.والآخر أن تكون الكعبة بحيث لا يراها فيلزمه التوجه نحوها وتلقاءها بالدلائل، وهي الشمس والقمر والنجوم والرياح وكل ما يمكن به معرفة جهتها، ومن غابت عنه وصلّى مجتهدًا إلى غير ناحيتها وهي ممن يمكنه الاجتهاد فلا صلاة له؛ فإذا صلّى مستدِلاّ ثم انكشف له بعد الفراغ من صلاته أنه صلى إلى غير القبلة أعاد إن كان في وقتها، وليس ذلك بواجب عليه؛ لأنه قد أدّى فرضه على ما أمِر به.وقد مضى هذا المعنى في البقرة مستوفًى والحمد لله.قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ} هو الله تعالى.{كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} يريد الأصنام.{أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أخبر عن الأوثان التي لا تخلق ولا تضر ولا تنفع، كما يُخبر عمن يعمل على ما تستعمله العرب في ذلك؛ فإنهم كانوا يعبدونها فذكرت بلفظ {مَن} كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} [الأعراف: 195].وقيل: لاقتران الضمير في الذكر بالخالق.قال الفراء: هو كقول العرب: اشتبه عليّ الراكب وجمله فلا أدري مَن ذا ومَن ذا؛ وإن كان أحدهما غير إنسان.قال المَهْدَوِيّ: ويسأل ب {مَن} عن البارىء تعالى ولا يسأل عنه ب {ما}؛ لأن {ما} إنما يسأل بها عن الأجناس، والله تعالى ليس بذي جنس، ولذلك أجاب موسى عليه السلام حين قال له: {فَمَن رَّبُّكُمَا يا موسى} [طه: 49]، ولم يجب حين قال له: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 26]. إلا بجواب {مَن} وأضرب عن جواب {ما} حين كان السؤال فاسدًا.ومعنى الآية: من كان قادرًا على خلق الأشياء المتقدمة الذكر كان بالعبادة أحقّ ممن هو مخلوق لا يضر ولا ينفع؛ {هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} [لقمان: 11]. {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40].قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} تقدم في إبراهيم.{إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} {والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي ما تبطنونه وما تظهرونه.وقد تقدم جميع هذا مستوفًى. اهـ.
|