الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فبمجرد إضافة الصفة إليه، جل وعلا، يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل، أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل: هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته، وجميع صفاته، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر.والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات، لا يليق بالله. لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا، وعدم الإيمان بها. مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبهاص أولا، ومعطلا ثانيًا. فارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفًا بالله كما ينبغي، معظمًا لله كما ينبغي، طاهرًا من أقذار التشبيه. لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أن وصف الله جلا وعلا، بالغ من الكمال، والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11]، {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4]، {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} [النحل: 74].فتحصل من جميع هذا البحث أن الصفات من باب واحد، وأن الحق فيها متركب من أمرين:الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الخلق.والثاني: الإيمان بكل ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتًا، أو نفيًا. وهذا هو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11]، والسلف الصالح، رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك، ولا كان يشكل عليهم. الا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط، وأما من جهة العلم، فهو عامي:
ومراده بالسبعين: سبع سماوات، وسبع أرضين. فمن علم مثل هذا من كون السماوات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل، فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق، ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، والإيمان بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. هو معنى قول الإمام مالك- رحمه الله-: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة.ويروى نحو قول مالك هذا عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأم سلمة رضي الله عنها- والعلم عند الله تعالى-. اهـ.
وقول الآخر: واتفق السلف وأهل التأويل على أن ما لا يليق من ذلك بجلال الرب تعالى غير مراد كالقعود والاعتدال واختلفوا في تعيين ما يليق بجلاله من المعاني المحتملة كالقصد والاستيلاء فسكت السلف عنه وأوله المؤولون على الاستيلاء والقهر لتعالي الرب عن سمات الأجسام من الحاجة إلى الحيز والمكان وكذلك لا يوصف بحركة أو سكون أو اجتماع وافتراق لأن ذلك كله من سمات المحدثات وعروض الأعراض والرب تعالى مقدس عنه.فقوله تعالى: {استوى} بتعين فيه معنى الاستيلاء والقهر لا القعود والاستقرار إذ لو كان وجوده تعالى مكانيا أو زمانيا للزم قدم الزمان والمكان أو تقدمهما عليه وكلاهما باطل فقد صح في الحديث كان الله ولا شيء معه وللزم حاجته إلى المكان وهو تعالى الغني المطلق المستغني عما سواه كان الله ولا زمان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان وللزم كونه محدودا مقدرا وكل محدود ومقدر جسم وكل جسم مركب محتاج إلى أجزائه ويتقدس من له الغنى المطلق عن الحاجة ولأن مكان الاستقرار لو قدر حادث مخلوق فكيف يحتاج إليه من أوجده بعد عدمه وهو القديم الأزلى قبله.فإن قيل نفي الجهة عن الموجود يوجب نفيه لاستحالة موجود في غير جهة.قلنا الموجود قسمان موجود لا يتصرف فيه الوهم والحس والخيال والانفصال وموجود يتصرف ذلك فيه ويقبله فالأول ممنوع لاستحالته والرب لا يتصرف فيه ذلك إذ ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر فصح وجوده عقلا من غير جهة ولا حيز كما دل الدليل العقلي فيه فوجب تصديقه عقلا وكما دل الدليل العقلي على وجوده مع نفي الجسمية والعرضية مع بعد الفهم الحسي له فكذلك دل على نفي الجهة والحيز مع بعد فهم الحس له.وقد اتفق أكثر العقلاء على وجوه ما ليس في حيز كالمعقول والنفوس والهيولي وعلى وجود ما لا يتصوره الذهن كحقيقة نفس الحرارة والبرودة فإنها موجودة قطعا ولا يتصور الذهن حقيقتها ولم يقل أحد إنهم ادعوا مستحيلا أو مخالفا للضرورة.فإن قيل قصة المعراج تدل على الجهة والحيز.قلنا قصة المعراج أريد بها والله أعلم أن يريه الله تعالى أنواع مخلوقاته وعجائب مصنوعاته في العالم العلوي والسفلي تكميلا لصفاته وتحقيقا لمشاهداته لآياته ولذلك قال تعالى: {لنريه من آياتنا} وسيأتي البسط في هذا في جواب الحديث إن شاء الله تعالى.فإن قيل إليه يصعد الكلم الطيب وهذا ظاهر في الجهة وكذلك قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} وقوله: {ثم يعرج إليه} الآية.قلنا ليس المراد بالغاية هنا غاية المكان بل غاية انتهاء الأمور إليه كقوله تعالى: {ألا إلى الله تصير الأمور} {وإليه يرجع الأمر كله} وقول إبراهيم الخليل عليه السلام: {إني ذاهب إلى ربي سيهدين} {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} {توبوا إليه} وهو كثير.فالمراد الانتهاء إلى ما أعده لعباده والملائكة من الثواب والكرامة والمنزلة.فإن قيل قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} {يخافون ربهم من فوقهم}.قلنا يأتي ذلك في مكانه من آيات القرآن.فإن قيل إنما يقال استولى لمن لم يكن مستوليا قبل أو لمن كان له منازع فيما استولى عليه أو عاجز ثم قدر.قلنا المراد بهذا الاستيلاء القدرة التامة الخالية من معارض وليس لفظة ثم هنا لترتيب ذلك بل هي من باب ترتيب الأخبار وعطف بعضها على بعض.فإن قيل فالاستيلاء حاصل بالنسبة إلى جميع المخلوقات فما فائدة تخصيصه بالعرش.قلنا خص بالذكر لأنه أعظم المخلوقات إجماعا كما خصه بقوله رب العرش العظيم وهو رب كل شيء فإذا استولى على العرش المحيط بكل شيء استولى على الكل قطعا إذا ثبت ذلك فمن جعل الاستواء في حقه ما يفهم من صفات المحدثين وقال استوى بذاته أو قال استوى حقيقة فقد ابتدع بهذه الزيادة التي لم تثبت في السنة ولا عن أحد من الأئمة المقتدى بهم وزاد بعض الحنابلة المتأخرين فقال الاستواء مماسة الذات وأنه على عرشه ما ملأه وأنه لابد لذاته من نهاية يعلمها وقال آخر يختص بمكان دون مكان ومكانه وجود ذاته على عرشه قال والأشبه أنه مماس للعرش والكرسي موضع قدميه.وهذا منهم افتراء عظيم تعالى الله عنه وجهل بعلم هيئة العالم فإن المماسة توجب الجسمية والقدمين يوجب التشبيه والإمام أحمد بريء من ذلك فإن المنقول عنه أنه كان لا يقول بالجهة للباري تعالى وكان يقول الاستواء صفة مسلمة وهو قول بعض السلف رضي الله عنهم. اهـ.
|