الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وتأمل قول الله تعالى: {إن كُنتُنَّ تُردْنَ الحياة الدنيا وَزينَتَهَا} [الأحزاب: 28] فأيُّ وَصْف أحقر، وأقلّ لهذه الحياة من أنها دُنْيا؟ وما فيها من مُتَع إنما هي زينة، يعني: ترف في المظهر، لا في الجوهر، كما قال سبحانه في موضع آخر: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأموال والأولاد} [الحديد: 20] ثم يعرض رسول الله على زوجاته الخيار الثاني المقابل للحياة الدنيا: {وَإن كُنتُنَّ تُردْنَ الله وَرَسُولَهُ}.المتأمل جانبيّ التخيير هنا يجد أن المقارنة بينهما أمر صَعْب يوحي برفض التخيير بين طرفي هذه المسألة، فمَنْ يقبل أنْ تكون له حياة دنيا مقابل الله، وأن تكون له زينتها مقابل رسول الله، ثم زدْ على ذلك الدار الآخرة التي لم يُذكَر قبالتها شيء في الجانب الآخر، ثم إن الحياة الدنيا التي لم يُذكَر قبالتها شيء في الجانب الآخر، ثم إن الحياة الدنيا التي نعيشها حتى لو لم تُوصَفْ بأنها دنيا كان يجب أنْ يُزهد فيها.والحق أنهن فَهمْنَ هذا النص واخترْنَ الله ورسوله والدار الآخرة، ومَنْ يرضى بها بديلًا: والحمد لله. {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب: 25].ثم يأتي جزاء مَن اختار الله ورسوله والدار الآخرة {فَإنَّ الله أَعَدَّ للْمُحْسنَات منكُنَّ أَجْرًا عَظيمًا} [الأحزاب: 29] المحسنة هي الزوجة التي تعطي من الرحمة والمودة الزوجية فوق ما طُلب منها.{يَا نسَاءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفَاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضعْفَيْن وَكَانَ ذَلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا (30)}.الحق- سبحانه وتعالى- بعد أنْ خيَّر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فاخترْنَ الله ورسوله والدارالآخرة أراد سبحانه أنْ يُعطيهن المنهج والمباديء التي سيسرْنَ عليها في حياتهن، ونلحظ أن آية التخيير كانت من كلام النبي عن ربه، أما هنا فالكلام من الله مباشرة لنساء النبي.{يا نساء النبي} [الأحزاب: 30] فبداية المسألة {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجكَ} [الأحزاب: 28] فلما اخترْن الله ورسوله والدار الآخرة كأنهن ارتفعْنَ إلى مستوى الخطاب المباشر من الله تعالى، كأنهن حقَّقْنَ المراد من الأمر السابق {فَتَعَالَيْنَ} [الأحزاب: 28].كلمة {نسَاءَ} [الأحزاب: 30] نعلم أنها جمع، لكن لا نجد لها مفردًا من لفظها، إنما مفردها من لفظ آأخر هو امرأة، وفي اللغة جموع تُنُوسي مفردها بشهرة مفرد آخر أرقّ أو أسهل في الاستعمال، وامرأة أو مَرة يصح أيضًا من امرؤ، وهذه اللفظة تختلف عن ألفاظ اللغة كلها، بأن حركة الإعراب فيها لا تقتصر على الحرف الأخير إنما تمتد أيضًا إلى الحرف قبل الأخير، فنقول: قال امْرُؤُ القيس، وسمعت امْرَأَ القيس، وقرأت لامْريء القيس.وبعض الباحثين في اللغة قال: إن نساء من النَّسْأ والتأخير، على اعتبار أن خَلْقها جاء متأخرًا عن خَلْق الرجل، ومفردها إذن نَسْءٌ وإنْ كان هذا تكلفًا لا داعيَ له.وبعد هذا النداء {يانساء النبي} [الأحزاب: 30] يأتي الحكم الأول من المنهج الموجَّه إليهن: {مَن يَأْت منكُنَّ بفَاحشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضعْفَيْن} [الأحزاب: 30] نلحظ أن الحق سبحانه لم يبدأ الكلام مع نساء النبي بقوله مثلًا: مَنْ يتق الله منكن، إنما بدأ بالتحذير من إتيان الفاحشة؛ لأن القاعدة الشرعية في التقنين والإصلاح تقوم على أن درء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة كما أننا قبل أنْ نتوضأ للصلاة نبريء أنفسنا من النجاسة.ومثَّلْنَا لذلك وقُلْنا: هَبْ أن واحدًا رماك بتفاحة، وآخر رماك بحجر، فأيهما أَوْلَى باهتمامك؟ لا شكَّ أنك تحرص أولًا على ردّ الحجر والنجاة من أذاه، وكذلك لو أردتَ أنْ تكون ثوبك مثلًا وهو مُتسخ، لابد أن تغسله أولًا.لذلك بدأ الحق سبحانه التوجيه لنساء النبي بقوله: {مَن يَأْت منكُنَّ بفَاحشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} [الأحزاب: 30] لكن الفاحشة أمر مستبعد، فكيف يتوقع منتهي الذنوب من نساء رسول الله؟ قالوا: ولم لا، وقد خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {لَئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].ومعلوم أن رسول الله ليس مظنة الوقوع في الشرك، إذن: فالمعنى، يا محمد ليس اصطفاؤك يعني أنك فوق المحاسبة، كذلك الحال بالنسبة لنسائه: إنْ فعلَتْ إحداكن فاحشة، فسوف نضاعف لها العذاب، ولن نستر عليها لمكانتها من رسول الله، فإياكُنَّ أنْ تظننَّ أن هذه المكانة ستشفع لكُنَّ، وإلا دخلتْ المسألة في نطاق إذا سرق الوضيع أقاموا عليه الحد، وإذا سرق الشريف تركوه.إذن: منزلة الواحدة منكُنَّ ليست في كونها مجرد زوجة لرسول الله، إنما منزلتها بمدى التزامها بأوامر الله، وإلا فهناك زوجات للرسل خُنَّ أزواجهن واقرأ: {ضَرَبَ الله مَثَلًا لّلَّذينَ كَفَرُوا امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْن منْ عبَادنَا صَالحَيْن فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنيَا عَنْهُمَا منَ الله شَيْئًا وَقيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} [التحريم: 10].ولك أن تسأل: هذا حكم الفاحشة المبيّنة، أنْ يُضاعَف لها العذاب، فما بال الفاحشة منهن إنْ كانت غير مُبيّنة؟قالوا: هذا الحكم خاصٌّ بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن حدث من إحداهن ذنب بينها وبين نفسها فهو ذنب واحد مقصور عليها، فإنْ كان علانيةً فهو مُضَاعف؛ لأنهن أسوة وقدوة تتطلع العيون إلى سلوكهن، فإنْ ظهرت منهن فاحشة كان تشجيعًا للأخريات، ولم لا وقد جاءت الفاحشة من زوجة النبي.فمضاعفة العذاب- إذن- لأن الفساد تعدَّى الذات إلى الآخرين، وأحدث قدوة سوء في بيت النبي، فاتسحقتْ مضاعفة العذاب، لأنها آتْ شعور رسول الله، ولم تُقدّر منزلته وفضَّلَت عليه غيره لتأتي معه الفاحشة، وهذا يستوجب أضعاف العذاب، فإنْ ضاعف لها الله العذاب ضعفين فحسب، فهو رفْق بها، ومراعاة لماضيها في زوجية رسول الله.كذلك إنْ فعلتْ إحداهن حسنة، فلها أجرها أيضًا مُضَاعفًا؛ لأنها فعلتْ صالحًا في ذاتها كأيّ إنسانه أخرى، ثم أعطتْ قدوة حسنة، وأُسْوة طيبة لغيرها.فإنْ أخذْنا في الاعتبار حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ سنة حسنة، فَلَهُ أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة، ومَنْ سَنَّ سنة سيئة فعليه وزْرها، ووزْر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة».علمنا أن أجر الحسنة لا يُضاعف فقط مرتين، إنما بعدد ما أثَّرت فيه الأسوة، وفَرْق بين الضّعْف والضُّعْف. الضّعْف: ضعْف الشيء أي مثله، أما الضُّعف فهو فَقْد هذا المثل، فهو أقلُّ.ثم يقول سبحانه: {وَكَانَ ذَلكَ عَلَى الله يَسيرًا} [الأحزاب: 30] يعني: مسألة مضاعفة العذاب أمر يسير، ولن تغني عنكُنَّ منزلتكُنَّ من رسول الله شيئًا، فهذا أمر لا يسألني فيه أحد، ولا أحابي فيه أحدًا، ولابد أن أُسَيّر الأمور كما يجب أن تكون، ولا يعارضني فيها أحد، لذلك كثيرًا ما تُذيَّل أحكام الحق سبحانه بقوله: {إنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ} [البقرة: 220] فالعزة تقتضي أن يكون الحكم ماضيًا لا يُعدّله أحد، ولا يعترض عليه أحد.وهذا المعنى واضح في قوله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام: {وَإذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ للنَّاس اتخذوني وَأُمّيَ إلهين من دُون الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لي بحَقٍّ إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلمْتَهُ تَعْلَمُ مَا في نَفْسي وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسكَ إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَآ أَمَرْتَني به أَن اعبدوا الله رَبّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهمْ شَهيدًا مَّا دُمْتُ فيهمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني كُنتَ أَنتَ الرَّقيبَ عَلَيْهمْ وَأَنتَ على كُلّ شَيْءٍ شَهيدٌ إن تُعَذّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عبَادُكَ وَإن تَغْفرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}.[المائدة: 116-118].فقوله: {وَإن تَغْفرْ لَهُمْ} [المائدة: 118] يقتضي أن يقول: فإنك غفور رحيم، لكن الحق سبحانه عدل إلى {فَإنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] لأن الذنب الذي وقع فيه القوم ذنب في القمة، في الألوهية التي أخذوها من الله وجعلوها لعيسى عليه السلام، وهذا بمقتضى العقل يستوجب العذاب الشديد، لكن الحق سبحانه لا يُسأل عما يفعل، يُعذّب مَنْ يشاء، ويغفر لمَنْ يشاء، فإنْ غفر لهم فبصفة العزة التي لا يعارضها أحد، فكأن المنطق أن يُسأل الله: لماذا لم تُعذّب هؤلاء على ما ارتكبوه؟ لذلك دخل هنا من ناحية العزة، التي لا تُعارَض، والحكمة التي لا تخطيء.وبعد أن ذكر الحق سبحانه مسألة الفاحشة، وما يترتب عليها من عقاب ذكر سبحانه المقابل، فقال تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ منكُنَّ للَّه وَرَسُوله}. اهـ.
|