الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وبين في مواضع أخر أنه مع سعة رحمته ومغفرته: شديد العقاب. كقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} [الرعد: 6] وقوله: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب} [غافر: 3]، وقوله تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} [الحجر: 49-50]، إلى غير ذلك من الآيات.قوله تعالى: {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} الآية.بين في هذه الآية الكريمة: أنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب كالكفر والمعصي لعجل لهم العذاب لشناعة ما يرتكبونه، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة. فهو يمهل ولا يهمل.وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر: 45] وقد قدمنا هذا في سورة: النحل مستوفى.قوله تعالى: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ} الآية.بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه وإن لم يجعل لهم العذاب في الحال فليس غافلًا عنهم ولا تاركًا عذابهم، بل هو تعالى جاعل لهم موعدًا يعذبهم فيه، لا يتأخر العاذاب عنه ولا يتقدم.وبين هذا في مواضع أخر، كقوله في النحل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، وقوله في آخر سورة: فاطر: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45]، وكقوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42]، وكقوله: {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] الآية.وقد دلت آيات كثيرة على أن الله لا يؤخر شيئًا عن وقته الذي عين له ولا يقدمه عليه، كقوله: {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَآ} [المنافقون: 11]، وقوله: {يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، وقوله تعالى: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] الآية، وقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]، وقوله: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌَّ} [الأنعام: 67] إلى غير ذلك من الآيات.وقوله في هذه الآية الكريمة: {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ} أي ملجًا يلجؤون إليه فيعتصمون به من ذلك العذاب المجعول له الموعد المذكور. وهو اسم مكان، من وأل يئل وإلا ووؤلا بمعنى لجًا. ومعلوم في فن الصرف أن واوي الفاء من الثلاثي ينقاس مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه- على المفعل بكسر العين كما هنا، ما لم يكن معتل اللام فالقياس فيه الفتح كالمولى. والعرب تقول: لا وألت نفسه، أي لا وجدت منجى تنجو به، ومنه قول الشاعر:
وقال الأعشى: أي ما ينجو.وأقوال المفسرين في الموئل راجعة إلى ما ذكرنا، كقول بعضهم: مؤلًا محيصًا، وقوله بعضهم منجى. وقول بعضهم محرزًا، إلى غير ذلك بمعنى ما ذكرنا.{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}.بين في هذه الآية الكريمة: أن القرى الماضية لما ظلمت بتكذيب الرسل واللجاج في الكر والمعاصي أهلكهم الله بذنوبهم. إلخ.أي وأما في غير ذلك فسماع يحفظ ولا يقاس عليه. وزاد في التسهيل نوعًا ثالثًا ينقاس فيه فعل بضم ففتح، وهو الفعلة بضمتين إن كان اسمًا كجمعة وجمع. واسم الإشارة في قوله: {وتلك القرى} إنما أشير به لهم لأنهم يمرون عليه في أسفارهم، كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137-138]، وقوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [الحجر: 76]، وقوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 79] ونحو ذلك من الآيات.وقوله: {وتلك} مبتدأ و{القرى} صفة هل. أو عطف بيان. وقوله: {أهلكناهم} هو الخبر. ويجوز أن يكون الخبر هو {القرى} وجملة: {أهلكناهم} في محل حال، كقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا} [النمل: 52]. ويجوز أن يكون قوله: {وتلك} في محل نصب بفعل محذوف يفسره العامل المشتغل بالضمير، على حد قوله في الخلاصة: وقوله في هذه الآية الكريمة: {ولِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} قرأه عامة السبعة ما عدا عاصمًا بضم الميم وفتح اللام على صيغة اسم المفعول. وهو محتمال على هذه القراءة أن يكون مصدرًا ميميًا، أي جعلنا لإهلاكهم موعدًا. وأن يكون اسم زمان، أي وجعلنا لوقت إهلاكهم موعدًا. وقد تقرر في فن الصرف أن كل فعل زاد ماضيه على ثلاثة أحرف مطلقًا فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه- أن يكون الجميع بصيغة اسم المفعول. والمهلك- بضم الميم- من أهلكه الرباعي. وقرأه حفص عن عاصم {لمهلكهم} بفتح الميم وكسر اللام. وقرأه شعبة عن عاصم {لمهلكهم} بفتح الميم واللام معًا. والظاهر أنه على قراءة حفص اسم زمان، أي وجعلنا لوقت هلاكهم موعدًا. لأنه من هلك يهلك بالكسر. وما كان ماضيه على فعل بالفتح ومضارعة يفعل مصدره الميمي المفعل بالفتح.تقول هذا منزلة- بالكسر- أي مكان نزوله أو وقت نزوله، وهذا منزله بفتح الزاي. أي نزوله، وهكذا. منه قول الشاعر: فقوله: منزلها جمل بالفتح. أي نزول جمل إياها وبه تعلم أنه على قراءة شعبة {لمهلكهم} بفتح الميم واللام أنه مصدر ميمي. أي وجعلنا لهلاكهم موعدًا. والموعد: الوقت المحدد لوقوع ذلك فيه.تنبيه:لفظة {لما} ترد في القرآن وفي كلام العرب على ثلاثة أنواع:الأول- لما النافية الجازمة للمضارع. نحو قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [البقرة: 214]، وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} [آل عمران: 142] الآية. وهذه حرف بلا خلاف، وهي مختصة بالمضارع. والفوارق المعنوية بينها وبين لم النافية مذكورة في علم العربية، وممن أوضحها ابن هشام وغيره.الثاني- أن تكون حرف استثناء بمعنى إلا. فتدخل على الجملة الاسمية. كقوله تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] في قراءة من شدد {لما} أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. ومن هذا النوع قول العرب: أنشدك الله لما فعلت. أي ما أسألك إلا فعلك. ومنه قول الراجز: فقولها غنثت بعين معجمة ونون مكسورة وثاء مثلثة مسندًا لتاء المخاطب. والمراد بقولها غنث تنفست في الشرب. كنت بذلك عن الجماع، تريد عدم متابعته لذلك، وأن يتنفس بين ذلك. وهذا النوع حرف أيضًا بلا خلاف. وبعض أهل العلم يقول: إنه لغة هذيل.الثالث- من أنواع لما هو النوع المختص بالماضي المقتضي جملتين، توجد ثانيتهما عند وجود أولاهما، كقوله: {لما ظلموا} أي لما ظلموا أهلكناهم، فما قبلها دليل على الجملة المحذوفة. وهذا النوع هو الغالب في القرآن وفي كلام العرب. ولما هذه التي تقتضي ربط جملة بحملة اختلف فيها النحويون: هل هي حرف، أو اسم، وخلافهم فيها مشهور، وممن انتصر لأنها حرف ابن خروف وغيره. ومن انتصر لأنها اسم ابن السراج والفارسي وابن جني وغيرهم. وجواب لما هذه يكون فعلًا ماضيًا بلا خلاف. كقوله: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء: 67] الآية، ويكون جملة اسمية مقرونة ب {إذا} الفجائية. كقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، أو مقرونة بالفاء كقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 32] الآية، ويكون جوابها فعلًا مضارعًاكما قاله ابن عصفور. كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع وَجَاءَتْهُ البشرى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] الآية. وبعض ما ذكرنا لا يخلو من مناقشة عند علماء العربية، ولكنه هو الظاهر.هذه الأنواع الثلاثة، هي التي تأتي لها لما في القرآن وفي كلام العرب.أما لما المتركبة من كلمات أو كلمتين- فليست من لما التي كلامنا فيها، لأنها غيرها. فالمركبة من كلمات قوله بعض المفسرين في معنى قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ} [هود: 111] فقي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد نون إن وميم لما على قل من زعم أن الأصل على هذه القراءة: لمن ما بمن التبعيضية، وما بمعنى من، أي وإن كلا لمن جملة ما يوفيهم ربك أعمالهم، فأبدلت نون من ميما وادغمت في ما، فلما كثرت الميمات حذفت الأولى فصار لما. وعلى هذا القول: فلما مركبة من ثلاث كلمات: الأولى الحرف الذي هو اللام، والثانية من، والثالثة ما، وهذا القول وإن قال بعض أهل العلم- لا يخفى ضعفه وبعده، وأنه لا يجوز حمل القرآن عليه. وقصدنا مطلق التمثيل للما المركبة من كلمات على قول من قال بذلك. وأما المركبة من كلمتين فكقول الشاعر. لأن قوله لما في هذا البيت، مركبة من لن النافية الناصبة للمضارع وما المصدرية الظرفية، أي لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلًا، أي مدة رؤيتي له مقاتلًا. اهـ.
|