الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكًا، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علمًا وعملًا في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36- 37]، فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطانًا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38]، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلابد أن يقول هذا يوم القيامة.فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 37]؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أُتَي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر.والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى في أهل النار: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، وقال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 56- 59]، وهذا كثير في القرآن.الخامسة: قال ابن القيم: اختلف في قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124): {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} (125) هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} (38)، وقوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [قّ: 22]، وقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22]، وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 6- 7]، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]، وقوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور: 13- 15]، وقوله: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53].والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} وهو لم يكن بصيرًا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} وكيف يجاب بقوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا}؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]، وقد قيل في هذه الآي أيضًا: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124)، قالوا لأنهم يتكلمون يومئذٍ ويسمعون ويبصرون.ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم، المضادّ للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئًا يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن.وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فَيُبْصَرُونَ بأجمعهم، عميًا بكمًا صمًّا، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل.والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حُجَّةً، هم عُمْيٌ عنها، بل هم عُمْيٌ عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانًا، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.وفصل الخطاب؛ أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنكم محشورون إليّ حفاة عُراة» وكقوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]، وكقوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: {يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 20- 21]، ثم قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضًا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. انتهى.السادسة: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]، فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك.قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس دخلًا في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعدًا عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.روى الإمام أحمد عن سعد بن عُبَاْدَة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ما من رجل قرأ القرآن فنسيه، إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم»؛.السابعة: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائمًا. اهـ.
وإنما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا» ليبين طريقًا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم، ويتسلط به على قتل الكافر منهم. وروي من وجوه: أن عائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قَتَلت جانًا. فأُريب في المنام أن قائلًا يقول لها: لقد قتلتِ مُسلمًا. فقالت: لو كان مُسلما لم يدخل على أزواج النَّبي صلى الله لعيه وسلم. قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصحبت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجُعلت في سبيل الله. وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة. فتصدقت وأعتقت رقابًا. وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيات التي نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي. وعن علقمة نحوه. ثم ذكر صفة إنذار حيات البيوت فقال: قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار: وإن ظهر في اليوم مرارًا، ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرات في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام.وقيل: يكفي ثلاث مرار. لقوله صلى الله عليه وسلم: «فليؤذنه ثلاثًا»، وقوله: «حرجوا عليه ثلاثًا» ولأن ثلاثًا للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى لقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة أيام» وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثًا على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ، فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدو لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البُناني، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئًا في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئًا بعد فاقتلوه. ثم قال: وقد حكى ابن حبيب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: «أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان عليه السلام ألا تؤذونا ولا تظهرن علينا» انتهى كلام القرطبي ملخصًا قريبًا من لفظه.
|