الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} الْعَهْدُ: الْوَصِيَّةُ بِمَعْنَى إِنْشَائِهَا، وَبِمَعْنَى مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ مَا يُوصِي بِهِ الْمُوصِي، وَعَهِدْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَصَّيْتُهُ بِفِعْلِهِ أَوْ حِفْظِهِ، وَيَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَهُوَ الْمُعَاهَدَةُ كَمَا يَكُونُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ مَنْ يَعْهَدُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ، وَمَنْ تَلْتَزِمُ لَهُ شَيْئًا، وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ بِضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْكِيدِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (2: 40) أَيْ: أَوْفُوا بِمَا عَهَدْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ أُوفِ لَكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى عَهْدَ اللهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: عَهْدُ اللهِ تَارَةً يَكُونُ بِمَا رَكَّزَهُ فِي عُقُولِنَا، وَتَارَةً يَكُونُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ فِي الْكِتَابِ وَبِأَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَتَارَةً بِمَا نَلْتَزِمُهُ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ كَالنُّذُورِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا. اهـ.وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ الْعَهْدُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَهِيَ عَهْدٌ مِنْهُ يُطَالِبُ النَّاسَ بِهِ وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْحَنِيفِيَّةُ، وَأَصْلُهَا الْمَيْلُ عَنْ جَانِبِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ إِلَى جَانِبِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، فَقَدْ فَطَرَ اللهُ أَنْفُسَ الْبَشَرِ عَلَى الشُّعُورِ بِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ فَوْقَ جَمِيعِ قُوَى الْعَالَمِ، وَعَلَى إِيثَارِ مَا تَرَاهُ حَسَنًا وَاجْتِنَابِ غَيْرِهِ، وَعَلَى حُبِّ الْكَمَالِ وَكَرَاهَةِ النَّقْصِ، وَلَكِنَّهُمْ يُخْطِئُونَ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى بَيَانِهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَهْدُ اللهِ الْمُفَصَّلُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ لِمُسَاعَدَةِ الْفِطْرَةِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِزَالَةِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَسَادِ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ، وَمِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِعَهْدِ اللهِ الْعَامِّ، عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ بَيَانِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ وَالنَّشْأَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَافُرِ وَالتَّعَادِي، أَعْنِي تِلْكَ الْمُنَادَاةَ الَّتِي نَادَى بِهَا بَنِي آدَمَ فِي الْآيَاتِ الْعَشْرِ مِنْ (26 إِلَى 35) وَمِنْهَا التَّحْذِيرُ مِنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ مَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (36: 60) وَمِنْهَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُهُ الْكُبْرَى فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ 151- 153 مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا} (6: 152).وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ السَّلَفِ الْعَهْدَ بِالْمِيثَاقِ الْفِطْرِيِّ الْعَامِّ الَّذِي يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} إِلَخْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُمَا وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمَّا ابْتَلَاهُمْ بِالشَّدَّةِ وَالْجَهْدِ وَالْبَلَاءِ ثُمَّ أَتَاهُمْ بِالرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ ذَمَّ اللهُ أَكْثَرَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ وَيَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ شَأْنِ الْفِطْرَةِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَكَوْنِ هَؤُلَاءِ لَمْ تُؤَدِّبْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَهَذَا فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْعَهْدِ الْفِطْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ اللهَ تَعَالَى عِنْدَ الضِّيقِ بِأَنْ يَشْكُرُوا لَهُ وَيُوَحِّدُوهُ إِذَا أَنْجَاهُمْ كَمَا حَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ تَفْسِيرُ الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (19: 87) وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ؛ أَيْ: لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنْ عَهْدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ هُوَ الَّذِي جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْلَابِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِهِ، وَخَالَفُوهُ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَعَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ لَا مِنْ عَقْلٍ، وَلَا مِنْ شَرْعٍ، وَفِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ الْكِرَامُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «يَقُولُ اللهُ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» الْحَدِيثَ اهـ.وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْعَهْدَ يَعُمُّ هُنَا كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ عَهْدٍ فِطْرِيٍّ وَشَرْعِيٍّ وَعُرْفِيٍّ مِمَّا يَلْتَزِمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي تَعَاهُدِهِمْ وَتَعَاقُدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مَعَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِمِنْ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ عَهْدًا مَا يَفُونُ بِهِ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ الَّذِي وَجَدْنَا عَلَيْهِمْ أَكْثَرَهُمْ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفُسُوقِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ كُلِّ عَهْدٍ فِطْرِيٍّ وَشَرْعِيٍّ بِالنَّكْثِ وَالْغَدْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ آمَنَ وَالْتَزَمَ كُلَّ عَهْدٍ عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، أَوْ عَاهَدَهُ اللهُ عَلَيْهِ، أَوْ تَعَاهَدَ عَلَيْهِ مَعَ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَفِي بِبَعْضِ ذَلِكَ حَتَّى فِي حَالِ الْكُفْرِ؛ إِذْ لَا تَتَّفِقُ أَفْرَادُ أُمَّةٍ كَبِيرَةٍ عَلَى الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي تَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ بِالصِّدْقِ الَّذِي لَا تَشُوبُهُ شُبَهَاتُ الْمُبَالَغَةِ بِمَا يَسْلُبُ أَحَدًا حَقَّهُ، أَوْ يُعْطِي أَحَدًا غَيْرَ حَقِّهِ، وَقَدْ نَوَّهْنَا بِهَذِهِ الدِّقَّةِ مِنْ قَبْلُ، وَغَفَلَ عَنْهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَزَعَمُوا هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْكُلُّ فِي الْكُلِّ وَالْفِسْقُ فِي الْأَصْلِ أَعَمُّ مِنْ نَكْثِ الْعَهْدِ، وَيَتَسَاوَى مَفْهُومُهُمَا بِمَا فَسَّرْنَا بِهِ عُمُومَ الْعَهْدِ هُنَا، فَفِي التَّعْبِيرِ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ، بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، إِذِ الْأَوَّلُ يُقَرِّرُ بِمَنْطُوقِهِ الثَّانِي الَّذِي يُقَرِّرُ بِمَفْهُومِهِ مَنْطُوقَ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ الْجِنَاسُ التَّامُّ بَيْنَ {وَجَدْنَا} الْأُولَى وَهِيَ بِمَعْنَى أَلْفَيْنَا، وَالثَّانِيَةِ وَهِيَ بِمَعْنَى عَلِمْنَا، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي سَلْبِ الْوُجُودِ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتِ الثَّانِي. اهـ.
|