الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج عنه أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان، ومعنى قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ} [الرحمن: 46] إلخ عليه مما لا يخفى، ثم إن قاصرات الطرف إن كنّ من الإنس فهنّ أجل قدرًا وأحسن منظرًا من الحور المقصورات في الخيام بناءًا على أنهن النساء المخلوقات في الجنة.فقد جاء من حديث أم سلمة «قلت يا رسول الله: أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، قلت: يا رسول الله وبم ذاك؟ قال: بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدًا ألا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدًا طوبى لمن كنا له وكان لنا».إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيدًا للقول بتفضيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما قدم سبحانه ذكر الاتكاء أولًا على ذكر النساء لأنه عز وجل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعارًا ظاهرًا وهو الاتكاء فإنه من شأن الآمنين، وأخر سبحانه ذكره ثانيًا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزل من طعام وشراب وقينة تكون فيه، وإذا قلنا: إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع، وقال الإمام في ذلك: إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائمًا لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب، ومنهم من يكون مترددًا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فالله عز وجل قال في أهل الجنة: {مُتَّكِئُونَ} قبل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعد الاجتماع ليعلم أنهم دائمون على السكون، ولا يخفى أن هذا على ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل أن يقول لم لم يعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضًا، ثم ذكر في ذلك وجهًا ثانيًا وهو على ما فيه مبني على ما لا مستند له فيه من الآثار فتدبر.{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وقوله عز وجل: {تبارك اسم رَبّكَ} تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنه الفائضة على الأنام، فتبارك بمعنى تعالى لأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصف الآتي، وقد ورد في الأحاديث (تعالى اسمه) أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم {الرحمن} المنبىء عن إفاضة الآلاء المفصلة، وارتفع مما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها، وإذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانه كذلك فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى؟؟.وقيل: الاسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها، وقيل: هو مقحم كما في قول من قال:
وقيل: هو بمعنى المسمى، وزعم بعضهم إن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة وهو تعدد الآلاء والنعم تفسير {تبارك} بكثرت خيراته ثم إنه لا بعد في إسناده بهذا المعنى لاسمه تعالى إذ به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان، وقوله سبحانه: {ذِى الجلال} صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلًا لما ذكر من التنزيه والتقرير.وقرأ ابن عامر وأهل الشام {ذو} بالرفع على أنه وصف للاسم ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح.هذا ومن باب الإشارة: في بعض الآيات {مُّقْتَدِرِ الرحمن عَلَّمَ القرءان} [الرحمن: 1، 2] إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانية الإجمالية عند استوائه عز وجل على عرض الرحمانية {خَلَقَ الإنسان} [الرحمن: 3] الكامل الجامع {عَلَّمَهُ البيان} وهو تفصيل تلك العلوم الإجمالية {فَإِذَا قرأناه فاتبع قُرْءانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19] {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الاستعدادات، و{النجم} القوى السفلية {والشجر} الاستعدادات العلوية {يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه {والسماء} سماء القوى الإلهية القدسية {رَفَعَهَا} فوق أرض البشرية {وَوَضَعَ الميزان} القوة المميزة {أَلاَّ تَطْغَوْاْ في الميزان} [الرحمن: 8] لا تتجاوزوا عند أخذ الحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية.وجوز أن يكون {الميزان} الشريعة المطهرة فإنها ميزان يعرف به الكامل من الناقص {والأرض} أرض البشرية {وَضَعَهَا} بسطها وفرشها {لِلاْنَامِ} [الرحمن: 10] للقوى الإنسانية {فِيهَا فاكهة} من فواكه معرفة الصفات الفعلية {والنخل ذَاتُ الاكمام} [الرحمن: 11] وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظم وذات أطوار كل طور مستور بطور آخر {والحب} هو حب الحب المبذور في مزارع القلوب السليمة من الدغل {ذُو العصف} أوراق المكاشفات {والريحان} [الرحمن: 12] ريحان المشاهدة {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين}.[الرحمن: 17] رب مشرق شمس النبوة ومشرق قمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني {مَرَجَ البحرين} بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية {يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} [الرحمن: 19، 20] حاجز القلب {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] أنواع أنوار الأسرار ونيران الأشواق {وَلَهُ الجوار} سفن الخواطر المسخرة في بحر الإنسان {تُكَذّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] ما شم رائحة الوجود {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} الجهة التي تليه سبحانه وهي شؤوناته عز وجل {ذُو الجلال} أي الاستغناء التام عن جميع المظاهر {والإكرام} [الرحمن: 27] الفيض العام يفيض على القوابل حسبما استعدت له وسألته بلسان حالها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن في السموات والأرض} الخ، واستدل الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره بقوله سبحانه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} [الرحمن: 29] على شرف التلون، وكذا استدل به على عدم بقاء الجوهر آنين، وعلى هذا الطرز ما قيل في الآيات بعد، وذكر بعض أهل العلم أن قوله تعالى: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 13] قد ذكر إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها عقيب تعداد عجائب خلقه تعالى.وذكر المبدأ والمعاد، وسبعة عقيب ذكر ما يشعر بالنار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنة فكأنه أشير بذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الجنتين من الله تعالى ووقاه جهنم ذات الأبواب السبعة؛ والله تعالى أعلم بإشارات كتابه وحقائق خطابه ودقائق كلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام. اهـ.
|