الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
إذن: فلا أحد منا يفهم لغة التسبيح، وعرفنا من قبل حين سمع سليمان عليه السلام قول النملة وتبسم لها ضاحكًا، وكذلك ما سمعه من الهدهد، وكذلك تسخير الجبال لتسبح مع داود عليه السلام.{إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95].إن كل كلمة لها دلالتها ومعناها. فكلمة العلم تدلنا على إحاطة علمه بكل شيء في الوجود، وكلمة الحكمة تدلنا على أن كل شيء منه يصدر عن حكمة. وكلمة الرزاق تدلنا على أن كل مرزوق في الوجود إنما أخذ من فيضه وخيره، وهكذا إلى ما لا نهاية لكماله من صفات ذاته. وكلمة الله تدل على كل صفات الجلال والجمال والكمال، فإذا قال: الله فهذا الاسم: يشمل القادر، العالم، الحكيم، القدير، وكل صفات الحق ما علمت منها وما لم تعلم، ما دامت ذاته سبحانه وتعالى متصفة بكل صفات الكمال، فالواجب أن يكون كل فعل يصدر عن ذاته المتصفة بالكمال له مطلق القدرة والجمال والكمال.إذن فحين يقول الحق ذلك فإنما يلفتنا إلى أن كل شيء كائن في الوجود إنما هو من خلق الله، وأن له حياة تناسب مهمته؛ فالإنسان له حياة تناسب مهمته. والحيوان له حياة تناسب مهمته. والنبات له حياة تناسب مهمته. والجماد له حياة تناسب مهمته. وإذا نظرت إلى الأشياء كلها بهذا المعنى وجدت أن كل موجود فيه حياة، ولكن الحياة الكاملة بكل مقوماتها وجدت في الأعلى من المخلوقات وهو الإنسان، والله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان الحياة حسًا وحركة، ثم أعطاه حياة أخرى هي التي تُصعّد حياته وتجعل لحياته قيمة؛ لأن حياتنا الني نعيشها إنما يتمتع بها المؤمن والكافر، وقصارى ما فيها أن تعطينا الحس والحركة قدر عمرنا في الحياة، ولكن حياة الإيمان بما يبعثه الله لنا من منهج على يد الرسول. تعطينا حياة أوسع، وأخلد، وأرغد، وهذه هي الحياة الحقة، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].وهذه هي الحياة الحقيقية وقول الحق: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} هو المقدمة الأولى للحياة، ثم تكلم عن الحياة وأنه يخرج حيًا من ميت، وهو هنا قد خاطبنا على مقدار أوليات علمنا بالأشياء؛ فالشيء إذا لم يكن له حس وحركة نعتبره ميتًا لكن لو نظرت إلى الحقيقة لوجدت كل شيء في الوجود له حياة.مصداق ذلك قوله جلت قدرته: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}.وما دام كل شيء هَالِكًا فكل شيء قبل أن يهلك كان فيه حياة.والله سبحانه القائل: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26- 27].ولماذا جاء في هذه الآية ب تخرج وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قوله: ومخرج الميت من الحي؟ إنّ الذين بحثوا هذا البحث نظروا نظرة سطحية في المقابلة الجزئية في الآية، وهي: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} وقال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} نسوا أنه سبحانه قال: إنه يخرج الحي من الميت؛ لبيان أن الله فالق الحب والنوى ليخرج الحي من الميت أي أن الله فلق وشق الحب والنوى لأجل أن يخرج الحي من الميت..ثم قال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} هو مقابل لفالق فلا تأخذها مقابلة للجزئية في الآية؛ ولأن الاسم يدل على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث؛ فالحق سبحانه وتعالى له صفة في ذاته، وصفة في متعلقات هذه الذات؛ فهو سبحانه وتعالى رَزّاق، قبل أن يكون له مخلوق يرزقه. وهو رزاق، وبعد ما خلق من يرزقه هو رازق؛ لأنه هو الخالق، والخالق صفة للذات وإن لم يوجد المتعلق، وهو سبحانه المحيي قبل أن يوجد من يحييه؛ لأن صفته في ذاته أنه يحيي، ومميت قبل أن يميت من يريد أن يميته؛ لأن الصفة موجودة في ذاته.وسبحانه فالق الحب والنوى أي قبل أن يوجد الحب والنوى الذي يفلقه، ومخرج الحي من الميت هو صفة ثابتة في ذاته قبل أن يوجد متعلِّقها. وله صفة- أيضًا- بعد أن يوجد المتعلق، فإن أراد الصفة قبل أن يوجد المتعلَّق جاء بالاسم: فالق ومخرج. وإن كان يريد الصفة بعد أن توجد، يقول: يخرج، يخرج.ويذيل الحق الآية: {ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95].وذا اسم إشارة لما تقدم، وهو سبحانه فالق الحب والنوى ومن يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي وهو الله. والكاف في قوله: {ذلكم} لمن يخاطبهم وهم نحن، أما اللام من {ذلكم} فهي للبعد والميم للجمع. فحين يريد الحق أن يخاطب رسوله، يقول: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].ولكنه هنا يخاطبنا فيقول: {ذلكم} إشارة إلى قول الحق سبحانه وتعالى: الله، وفالق، ومخرج، والخطاب لجمهرة المخاطبين بالقرآن. فإذا كان الله بهذه الصفات فكيف ينصرفون عن الإيمان به وتوحيده؟ وذكر لنا أول مقوم من مقومات الحياة وهو النبات وهو ما نأكله، فإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الحب وخلق النوى ليخرج الحي من الميت وهو مخرج الميت من الحي فهو أولى بأن يكون إلهًا معبودًا فكيف تصرفون عنه؟! وإلى من تصرفون؟! إلى من توجد فيه صفات أرقى من هذه الصفات؟!! لا يوجد من فيه صفات مثل هذه، ولا أرقى من هذه الصفات.وإذا سمعت كلمة: أنَّى فافهم منها أنها تأتي للتعجيب، تأتي وتطلب أن يدلنا واحد على كيفية انصرافهم عن الله وتوحيده مع وضوح الدلالات والبراهين.ومرة يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28].هو سبحانه يخاطب الناس ويقول لهم: كيف تكفرون بالله فالله في ذاته يستحق ألا يكفر به، لأنه هو الذي خلق من عدم، وأمدّ من عُدْم، ولم يشاركه أحد أو ينازعه في هذا الأمر، وإليه نرجع جميعًا، فكيف تكفرون به؟ وهذا تعجيب كبير؛ لذلك يقول سبحانه هنا: {فأنىتؤفكون} أي فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون- مع الله- إلها آخر بعد أن تعلموا أن هذه الصفات له سبحانه وليست لغيره؟ وكل تعجيب يأتي في أنّى مثل قوله الحق: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259].أي كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ويقول سيدنا زكريا لسيدتنا مريم: {أنى لَكِ هذا}.إذن فالتعجب ملازم لكلمة أنّى فكأن الصفات التي تقدمت صفات موجبة للإيمان بالله واحدًا قهارًا مريدًا عالمًا حكيمًا نرجع إليه جميعًا، فقولوا لنا: كيف تكفرون بهذا الإله؟ وإلى من تذهبون إذا كان هذا الإله يُكفر به؟ أهناك شيء ادّعى أنه خلق وأنه رزق؟ لو أن شيئًا ادّعى أنه خلق أو رزق كنا نعذركم، لكن لم يدّع شيء في الوجود بأنه خلق أو رزق، والدعوة تثبت لصاحبها ما لم يقم لها معارض.{فأنى تُؤْفَكُونَ} وكلمة أنّى تؤفكون تعني كيف تُصرفون انصرافًا كذبًا؛ لأن الإفك. معناه الكذب المتعمّد. اهـ.
والفالِقُ والفَليق: ما بين الجَبَلَيْنِ، وما بَيْن السَّنَامَيْنِ البعير.وفسَّر بعضهم {فالق} هنا، بمعنى: خَالِق.قيل: ولا يُعْرَفُ هذا لُغَةً، وها لا يُلْتضفَتُ إليه؛ لأن هذا مَنْقُولٌ عن ابْن عباس، والضَّحَّاك أيضًا، لا يُقال ذلك على جِهَةِ التَّفْسير للتقريب؛ لأن الفرَّاء نقل في اللُّغَة: أن فَطَرَ وخَلَقَ وفَلَقَ بمعنى وَاحِد.و{النَّوَى}: اسم جِنْس، مُفْرَد نواة، على حدّ قَمْح وقَمْحَ، والنَّوَى: البُعْد أيْضًا.ويُقال: نوت البُسْرَةُ وأنْوَتْ، فاشتدَّت نَوَاتُهَا، ولام النَّواة بانقلاب عَيْنِها واوًا والأكثر التَّغَاير.قوله: {يخرج} يَجُوز فيه وجهان:أحدهما: أنَّها جملة مُسْتأنَفَةٌ، فلا محَلَّ لها.والثاني: أنَّها في موضع رفع خَبَرًا ثانيًا، لأنَّ قوله: {مُخْرجُ} يجوزُ فيه وجهان:أحدهما: انه مَعْطُوفٌ على {فَالِقِ}، ولَمْ يذكر الزَّمَخْشَريُّ غيره، أي: اللَّه فاَلِقٌ ومُخْرِجٌ، أخبر فيه بِهَذَيْن الخَبريْنِ؛ وعلى هذا فيكون {يُخْرِجُ} على وَجْهِه، وعلى كونه مُستَانفًا فيَكُون مُعْتَرِضًا على جِهَة البيانِ لما قَبْلَه من معنى الجملة.والثاني: أنه يكون مَعْطُوفًا على {يُخْرِجُ}، وهل يَجْعَل الفعل في تأويل اسْم ليصِحَّ عطف الاسْمِ عليه، أو يجعل الاسمُ بتأويل الفِعْلِ؛ ليصِحَّ عَطْفُه عَليْه؟ احتمالًان مَبْنِيَّان على ما تقدَّمَ في {يُخْرِجُ}.إن قلنا: إنه مُسْتأنفٌ فهو فِعْلٌ غير مُؤوَّل باسم؛ فَيُرَدُّ الاسم إلى مَعْنَى الفِعْل، فكأن {مُخْرِج} في قُوَّة {يُخْرج}.وإن قُلْنَا: إنه خبر ثان لـ {إنَّ} وهو بِتَأوِيل اسْم واقع موقع خَبَر ثانٍ؛ فلذلك عُطِفَ عليه اسمٌ صريحٌ، ومن عَطْف الاسْمِ على الفِعْلِ لِكَوْن الفِعْلِ بتأويل اسم قَوْلُ الشَّاعِرِ في ذلك: [الطويل] وقول القائل في ذلك: [الرجز] وقول القائل في ذلك: [الرجز] أي: مُبيرًا، أمِّ صِبيَّ حابٍ، قاصِدٍ.قوله: {الحَيّ} اسمٌ لما يكون موصوفًا بالحياة، و{المَيِّتُ} اسمٌ للخَالِي عن صفة الحياة، وعلى هذا فالنَّبَاتُ لا يكُون حيًا.وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عصام: {الميّت} مُشدَّدَة الياء في الكَلِمَتَيْن، والباقُون بالتخفيف فيهما. اهـ. باختصار.
|