الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثامن: أنه قال بعد تمام القصة {جعلناك خليفة في الأرض} وترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم فعلى ما ذكروه يلزم أن يكون تفويض خلافة الأرض إليه بسبب إقدامه على القتل والفسق، وذلك مما لا يقول به عاقل.التاسع: أنه قال في حق الرسل: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} وكل ذلك ينافى وصفهم بالاقدام على الكبيرة والفاحشة.العاشر: أنهم ذكروا في روايتهم أن داود عليه السلام تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب قال رب إن آبائى قد ذهبوا بالخير كله فأوحى إليه: إنهم إنما وجدوا ذلك لأنهم لما ابتلوا صبروا فسأل الابتلاء فأوحى الله إليه: إنك لمبتلى في يوم كذا فاحترس ثم وقع فيما وقع فيه إلى آخر القصة، فدل أول حكايتهم على أن الله تعالى ابتلاه بالبلاء الذي يزيد في منقبته، فكيف يليق العشق والقتل بذلك؟الحادى عشر: قول داود عليه السلام {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} استثنى الذين آمنوا من هذا البغى فان كان هو الفاعل لذلك وجب أن يكون حاكما على نفسه بعدم الايمان.الثاني عشر: أن قوله تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} لا يلائم العشق والقتل فثبت بهذه الوجوه براءة نبى الله داود عما نسبه إليه الجهال.فإن قلت: إن كثيرا من المحدثين روى هذه الحكاية.قلت: هذه الدلائل الباهرة لما أبطلت قولهم وجب القطع بفسادها. فالعجب اتفاق الناس على أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، والظن إنما ينتفع به في العمليات وهذه المسألة ليست من العمليات، فصارت روايتهم ساقطة العبرة من كل الوجوه. وعن سعيد بن المسيب والحارث الاعور أن عليا رضى الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مأتين وستين وهو حد الفرية على الأنبياء وروى أن واحدا ذكر ذلك الخبر عند عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به.وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله تعالى فما ينبغى أن نلتمس خلافها، وإن كان على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه فيما ينبغى اظهار ما عليه، فقال عمر: سماعي هذا الكلام أحب إلى مما طلعت الشمس عليه.فإذا ثبت هذا فلنبحث أنه هل في الآية ما يدل على صدور الصغيرة عنه أم لا؟ فنقول: قال كثير من اهل الحق قول الله {هل أتاك نبأ الخصم} أخبر عن جماعة أنهم تسوروا قصره قاصدين قتله والاساءة إلى أهله فدخلوا قصره في وقت ظنوا أنه غافل. فلما رآهم داود عليه السلام خافهم لما تقرر في العرف أنه لا يتسور أحد دار غيره بغير أمره إلا لسوء يريده من قتله أو لمكاره على أهله أو سرقة ماله خصوصا إذا كان صاحب الدار شخصا معظما فلما رأوه مستيقظا انتقض عليهم التدبير فاقترح بعضهم عند فزعه خصومة لا أصل لها زاعما أنهم قصدوه لاجلها دون ما توهمه فقالا {خصمان بغى بعضنا على بعض} ثم ادعى أحدهما على الآخر مالا. فقال: {إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة} الآية فقال داود عليه السلام {لقد ظلمك} الآية ثم قال الله تعالى {فظن داود انما فتناه} أي امتحناه. لكنه لم يعمل على ظاهر الحال، ولم ينتقم منهم مع كونه ذا أيد وقوة وسلطان وقدرة بل صار مستغفرا للقوم الذين قصدوه وطالبا من الله تعالى العفو عنهم وذلك إن الله تعالى لم يقل إنه أذنب ولا أنه استغفر لنفسه فان المستغفر قد يستغفر لنفسه تارة ولغيره أخرى.قال الله تعالى في وصف الملائكة {ويستغفرون للذين آمنوا} وقال أولاد يعقوب لوالدهم {يا أبانا استغفر لنا} ثم قال الله تعالى {فغفرنا له ذلك} معنى غفرنا لاجل حرمة داود لأولئك وقبلنا شفاعته في التجاوز عنهم فهذا الذي قلناه مما ينطبق عليه لفظ الكتاب العزيز، فلا يحتاج فيه إلى المجاز من حمل الخصمين على الملكين، وادعاؤهما الخصومة على التمسك لا على التحقيق، وحمل النعجة على المرأة ويناسبه أمر رسولنا عليه الصلاة والسلام بالاقتداء به في قوله: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} وتأدب به عليه الصلاة والسلام يوم أحد لما هشمت ثناياه فقال «اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون» ويناسبه ما حصل عقيبه من المنصب العظيم وهو خلافة الله في أرضه.ووجه آخر: لعل الاستغفار انما كان لأن القوم لما تسوروا ظن داود عليه السلام بهم أنهم يقصدون قتله فلما لم يظهر الأمر كما ظن ندم على ذلك الظن، فكان الاستغفار عليه، أو لأنه لما هضم نفسه ولم يؤدبهم ولم ينتقم منهم مع القدرة التامة دخله شئ من العجب على كمال حلمه، فكان الاستغفار منه لأن العجب من المهلكات. فهذا قول من يقول لا دلالة في الآية على شئ من الزلات وهو الحسن عندي.القول الثاني: وهو قول من سلم دلالتها على الصغيرة فلهم فيها وجوه خمسة:الأول: أنه عليه السلام كان عالما بحسن امرأة اوريا فلما سمع أنه قتل قل غمه لميل طبعه إلى نكاح زوجته، فعوتب عليه بنزول الملكين.الثاني: أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وكان ذلك جائزا فيما بينهم، فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على امرأة اوريا، فأحبها فسأله النزول عنها فاستحى أن يزده، ففعل فتزوجها وهى ام سليمان عليه السلام، فقيل له. إنك مع ارتفاع قدرك وكثرة نسائك لم يكن ينبغى لك أن تسأل رجلا ليست له إلا امرأة واحدة النزول عنها، بل كان الواجب قهر نفسك.الثالث: أن أوريا خطبها ثم خطبها داود عليه السلام فآثره أهله فكان ذنبه أنه خطب على خطبة المؤمن مع كثرة نسائه.الرابع: أن داود عليه السلام كان مشتغلا بعبادته فأتاه رجل وامرأة يتحاكمان فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها ليحكم لها أو عليها، وذلك نظر مباح فمالت نفسه إليها ميل الخلقة ففصل بينهما وعاد إلى عبادته فشغله الفكر في امرها عن بعض نوافله فعوتب.الخامس: أن الصغيرة منه إنما كانت بالعجلة في الحكم قبل التثبت، وكان يجب عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ولا يقضى عليه قبل المسألة.والمجيب بهذا الجواب قال: إن الفزع من دخولهما عليه في غير وقت العادة أنساه التثبت والتحفظ والقائلون بهذا القول حملوا التحاكم على ضرب المثال، وإلا فيلزم إقدام الملك على الكذب وحملوا النعاج على النسوة، وكل ذلك عدول عن الظاهر من غير دليل.فإن قيل هب أنه لا دلالة في الآية على الذنب البتة ولكن مسارعته إلى تصديق أحد الخصمين على حكمه يكون الآخر ظالما غير جائز قلنا ليس في القرآن أنه صدقه من غير ظهور الحجة، إذ المراد إن كان الأمر كما ذكرت فقد ظلمك.الشبهة الثانية: تمسكوا بقوله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان} قالوا فلو كان داود عليه السلام مصيبا في حكمه لما خص الله تعالى سليمان بقوله: {ففهمناها} جوابه أن تخصيص سليمان عليه السلام بالذكر لا يدل على أن داود بخلافه فان دليل الخطاب في اللقب لا يفيد باجماع المحققين، ثم في هذا التخصيص فائدتان سوى ما ذكروه:الأولى: أن داود عليه السلام كان متوقفا لتعارض الامارات وسليمان لم يكن كذلك.الثانية: أن داود عليه السلام كان عالما به لكنه ما أفتى امتحانا لابنه سليمان رجاء أن يفتى به ويستخرج حكمه ويكون تخصيص ابنه سليمان بأن فهمه ذلك تقريرا لعين والده وإعلاء درجته في الناس وإنما أعرض عن ذكر داود عليه السلام للعلم باشتهاره فيما بين الخلق بمعرفة الأحكام، ثم إنه تعالى خلف الكلام بقوله: {وكلا آتينا حكما وعلما} لئلا يتوهم أنه كان جاهلا به وحاكما فيه بغير الصواب. اهـ.
|