الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} قرأ الأخوانِ وحفصٌ عن عاصمٍ {وَأُحِلَّ}، مبيِّنا للمفعول والباقُونَ مبنيًّا للفاعل، وكِلْتَا القراءَتَيْنِ الفعل فيما معطوف على الجملة الفعليَّةِ من قوله: {حُرِّمَتْ}، والمُحَرَّمُ والمُحَلَّلُ: هو اللهُ تعالى في الموضعين سواء صرَّح بإسناد الفعل إلى ضميره، أو حذف الفاعل للعلم بِهِ، وادَّعى الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ قراءة {وَأُحِلَّ لَكُمْ} مبنيًا للمفعول عطف على {حُرِّمَتْ} ليعطف فعلًا مبنيًا للمفعول على مثله، أي حرمت المبني للمفعول وَأمَّا على قراءة بنائه للفاعل فَجَعَلَهُ معطوفًا على الفعل المقدَّر النَّاصِبِ لكتاب كأنه قيل: كتب اللهُ عليكم تحريم ذلك، وأحَلَّ لكم ما وراء ذلكم.قال أبُو حَيَّان: وما اختاره يعني من التَّفْرِقَةِ بين القِرَاءَتَيْنِ غير مختار؛ لأنَّ النَّاصب لكتاب الله جملة مؤكدّة لمضمون الجُمْلَة من قوله: {حُرِّمَتْ} إلى آخره، وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} جملة تأسيسية، فلا يناسب أنْ تعطف إلاَّ على تأسيسية مثلها لا على جملة مؤكدة، والجملتان هنا متقابلتان إذْ إحْدَاهُمَا للتحريم، والأخرى للتحليل فالمناسب أن تعطف إحْدَاهُمَا على الأخرى لا على جملة أخرى غير الأولى، وقد فعل هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول، فليكن هذا مثله.قال شهاب الدِّينِ: وفي هذا الرد لأنَّ تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى وما ذكره أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهره وقد تبع البيضاويُّ الزَّمَخْشَرِيَّ في التفرقة فتأمل.قوله: {ما وراء ذلكم} مفعول به إما منصوب المحل أوْ مرفوع على حسب القراءتين في {أحل}.قوله: {أَن تَبْتَغُواْ} في محلّه ثلاثة أوْجِهٍ:الرَّفُعُ، والنَّصْبُ، والجَرُّ فالرَّفْعُ على أنَّهُ بدل من {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} على قراءة أحِلَّ مبْنِيًّا للمفعول لأنّ {ما} حينئذٍ قائِمَة مقامَ الفَاعلِ؛ وهذا بدل منها بدل اشتمال، وَأمَّا النَّصْبُ فالأجود أن يكون على أنَّه بدل من {مَا} المتقدّمة على قراءة {أَحَلَّ} مبنيًّا للفاعل كأنه قال: وأحل لكم ابتغاء أموالكم من تزويج أو ملك يمين، وأجاز الزَّمَخْشَرِيُّ أن يكونَ نصبه على المفعول من أجلِهِ، قال: بمعنى بَيَّنَ لكم ما يَحِلُّ مما يحرم إرادة أنْ يَكُونَ ابتغاؤكم بأموالكم الَّتي جعل اللهُ لَكُمْ قِيَامًا في حال كونكم مُحْصِنِينَ، وأنحى عليه أبُو حَيَّانَ وجعله إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ دسيسة الاعتزال ثم قال: فَظَاهِرُ الآية غير ما فَهِمَهُ إذ الظِّاهِرُ أنَّهُ تعالى أحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المُحَرَّماتِ السَّابق ذكرها بأمْوَالِنَا حَالَةَ الإحْصَانِ؛ لا حالةَ السِّفَاح، وعلى هذا الظَّاهِرِ لا يجوز أن يعرب {أَن تَبْتَغُواْ} مفعولًا له، لأنَّه فات شرط من شُرُوطِ المفعول له، وهو اتِّحاد الفاعِلِ في العامل والمفعول له؛ لأنَّ الفاعِلَ بـ {أحل} هو اللهُ تعالى، والفاعل في {تَبْتَغُواْ} ضمير المخاطبين، فقد اخْتَلَفَا ولما أحسّ الزمخشريُّ إن كان أحس جعل {أن تبتغوا} على حذف إرادة حتّى يتحد الفاعل في قوله: {وَأُحِلَّ} في المفعول له، ولم يجعل {أَن تَبْتَغُواْ} مفعولًا له إلاّ على حذف مضاف، وَإقامتهِ مُقَامهُ، وهذا كُلُّهُ خروجٌ عن الظَّاهِر انتهى.قال شهابُ الدِّينِ: ولا أدْرِي ما هَذَا التَّحمل، ولا كيف يخفى عَلَى أبي القاسم شرط اتحاد الفاعلِ في المفعولِ لَهُ حتّى يقول: إنْ كان أحسّ، وأجاز أبُو البقاءِ فيه النَّصْبَ على حذف حَرْفِ الْجَرِّ. قال أبُو البَقَاءِ: في {ما} من قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وجهان:أحدُهمَا: هي بمعنى مِنْ فعلى هذا يكون قوله: {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ} في موضع جرٍّ أو نصبٍ على تقديرِ بأن تبتغوا؛ أو لأنْ تبتغوا، أي أبيح لكم غير ما ذكرنا من النِّساء بالمُهُورِ.والثَّاني: أنَّ {ما} بمعنى الذي، والذي كناية عن الفعلِ، أي: وأحلّ لكم تحصيل ما وراء ذلك الفعل المحرم، و{أَن تَبْتَغُواْ} بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكون {أن تبتغوا} في هذا الوَجْهِ مثله في الوجه الأوَّلِ، يعني: فيكونُ أصله بأن تَبْتَغُوا، أو لأن تبتغوا، وفيما قاله نظرٌ لا يخفى، وأمَّا الجرُّ فعلى ما قاله أبُو البَقَاءِ، وقد تَقَدَّم ما فيه.و{مُّحْصِنِينَ} حال من فاعل تبتغوا، و{غَيْرَ مُسَافِحِينَ} حال ثانية، ويجوزُ أن يكون حال من الضَّمَيرٍ في {مُّحْصِنِينَ}، ومفعول مُحصنينَ ومُسافحينَ محذوف، أي: محصنين فُرُوجَكُمْ غير مسافحين الزَّوَانِي، وكأنَّها في الحقيقةِ حال مؤكدة؛ لأنَّ المحصن غير مسافح، ولم يقرأ أحدٌ بفتح الصَّادِ من محصنين فيما نعلم. والسَّفَاحُ الزِّنَا.قال اللَّيث: السَّفَاحُ والمُسَافحةُ: الفجور، وأصله الصَّبُّ، يقال: دموع سَوَافِحُ ومسْفُوحةٌ.قال تعالى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وفلان سَفَّاحٌ للدِّمَاء، وسمي الزَّنَا سفاحًا؛ لأنَّهُ لا غرض للزَّاني إلا صب منيه، وكانوا يَقُولُونَ صافحني ومَا ذَمَّنِي والمسافحُ من يظاهر بالزِّنَا، ومتّخذ الأخْدَان من تستر فاتَّخَذَ واحدة خفية.قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ} يجوزُ في {ما} وجهان أحدهُمَا: أنْ تكون شرطيّة.والثَّاني: أن تكونَ مَوْصولةً، وعلى كلا التقديرين فيجوزُ أن يكون المراد بها النساء المُسْتمتعَ بِهِنَّ، أي النَّوع المستمتع به، وأن يراد بها الاستمتاع الَّذي هو الحدث، وعلى جميع الأوجهِ المُتقدِّمَةِ، فهي في محلِّ رفع بالابتداء، فإنْ كانت شرطيَّة ففي خبرها الخِلافُ المشهور هل هو فعل الشّرط وجوابه، أو كلاهما وقد تقدَّمَ تحقيقهُ في البقرة، وإن كانت موصولة؛ فالخبَرُ قوله: {فآتوهن} ودخلت الفاءُ لشبه الموصول باسم الشرط كما تقدَّمَ، ثم إنْ أريد بها النَّوع المستمتعُ به فالعَائِدُ على المبتد سواء كانت ما شرطية أو موصولة الضمير المنصوب في {فآتوهن} ويكون قد راعى لفظ {مَا} تارة فأفرد في قوله: {بِهِ}، ومعناها أخرى، فجمع في قوله: {منهن} {فآتوهن} فيصيرُ المعنى: أي أُرِيدَ بها الاستمتاع، فالعائِدُ حينئذٍ محذوف، تقديره: فأيُّ نوع من الاستمتاعِ استمتعتم به من النساء فآتوهنّ أجورهن لأجله. ومن في {منهن} تحتمل وجهين:أحدهما: أن تكون للبيان.والثاني: أنْ تكون للتّبعيض، ومحلها النّص على الحال، من الهاء في به، ولا يجوزُ في ما أنْ تكون مصدريّة لفساد المعنى ولعود الضَّميرِ في بِهِ عليها. اهـ. بتصرف.
|