الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)} قوله عز وجل: {كل الطعام كان حلاًّ لبني إسرائيل إلاّ ما حرم الله على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكل ذلك كله فلست على ملته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان ذلك حلالاً لإبراهيم» قالوا كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حراماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله عز وجل كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلاّ ما حرم إسرائيل على نفسه وهو يعقوب من قبل أن ينزل التوراة يعني ليس الأمر على ما تدعيه اليهود من تحريم لحوم الإبل على إبراهيم بل كان ذلك حلالاً على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وإنما حرمه يعقوب بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة وطلب منهم أن يستخرجوا منها أن ذلك كان حراماً على إبراهيم، فعجزوا عن ذلك وافتضحوا وبأن كذبهم فيما ادعوا من حرمة هذه الأشياء على إبراهيم وقيل: إن اليهود أنكروا شرع محمد صلى الله عليه وسلم وادعوا أن النسخ غير جائز، فأبطل الله ذلك عليهم وأخبر أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده فقد حصل النسح وبطل قول اليهود بأن النسخ غير جائز، فأنكرت اليهود ذلك وقالوا: بل كان ذلك حراماً من زمن آدم إلى هذا الوقت فألزمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة وقال: إن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه فخاف من اليهود من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة فحصل بذلك كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها وبطل قولهم بأن النسخ غير جائز، وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان رجلاً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يعرف ما في التوراة، فلما أخبر أن ذلك ليس في التوراة علم أن الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم وحي من الله تعالى وقوله تعالى: كل الطعام يعني كل أنواع الطعام أو سائر المطعومات كان حلاً أي حلالاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، واختلفوا في الذي حرم يعقوب على نفسه قيل حرم لحوم الإبل وألبانها وروى الطبري بسنده عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها»؟ فقالوا: اللّهم نعم. وقال ابن عباس: هي العروق وكان سبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا وكان أصل وجعه فيما روي عن الضحاك أن يعقوب كان نذراً لئن وهب الله له اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح أحدهم. وفي رواية آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة وقال: يا يعقوب وقال: يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع؟ فعالجه فلم يصرع أحدهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك قد نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت آخر ولدك، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجاً، فلما قد يعقوب بيت المقدس أراد ذبح ولده ونسي ما قال له الملك فأتاه الملك وقال له: إنما غمزتك للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ذبح ولدك. وقال ابن عباس في آخرين أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه العيص، وكان يعقوب رجلاً بطشاً قوياً فلقيه ملك في صورة رجل فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب وصعد إلى السماء ويعقوب ينظر فهاج به عرق النسا ولقي منه شدة فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله رغاء أي صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقاً ولا طعاماً فيه عرق فحرمه على نفسه فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق ويخرجونها من اللحم ولا يأكلونها، وقيل لما أصاب يعقوب ذلك وصف له الأطبار أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها يعقوب على نفسه، وقيل إنما حرم يعقوب لحوم الجزور تعبداً لله تعالى وسأل ربه أن تنجز فحرمه الله على ولده وهو ظاهر الآية لأن الله تعالى قال: كل الطعام اكن حلاًّ لبني إسرائيل، ثم استثنى ما حرم إسرائيل على نفسه فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراماً على بني إسرائيل أما قوله من قبل أن تنزل التوراة فمعناه أن قبل إنزال التوراة كان كل أنواع الطعام حلالاً لبني إسرائيل سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه أما بعد نزول التوراة فقد حرم الله تعالى عليهم أشياء كثيرة من أنواع الطعام ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي: حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا حرموه على أنفسهم قبل نزولها وقال عطية: إنما كان حراماً عليهم بتحريم إسرائيل فإنه قال: إن عافاني الله تعالى لا يأكله ولد لي ولم يكن ذلك محرماً عليهم في التوراة وقال الكلبي: لم يحرمه الله في التوراة وانما حرم عليهم بعد نزول التوراة لظلمهم كما قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلّت لهم} وقال تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا إلى أن قال ذلك جزيناهم ببغيهم {وإنا لصادقون} فكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنباً عظيماً حرم الله عليهم طعاماً طيباً أو صب عليهم رجزاً وهو الموت. وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك حراماً عليهم ولا حرمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم اتباعاً لأبيهم ثم أضافوا تحريمه لله عز وجل فكذبهم الله تعالى فقال الله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة} يعني قل لهم يا محمد فأتوا بالتوراة {فاتلوها} أي فاقرؤوها وما فيها حتى يتبين أن الأمر كما قلتم {إن كنتم صادقين} يعني فيما ادعيتم فلم يأتوا بها وخافوا الفضيحة.
{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} فقال تعالى: {فمن افترى على الله الكذب} الافتراء اختلاق الكذب والافتراء الكذب والقذف والإفساد وأصله من فري الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود {من بعد ذلك} أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ولم يكن محرماً قبله {فأولئك هم الظالمون} أي هم المستحقون للعذاب لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين من بعدهم وهذا رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم فيما بقي عليهم مما نطق به القرآن من تعديد مساويهم التي كانوا يرتكبونها {قل صدق الله} يعني قل صدق الله يا محمد فيما أخبر أن ذلك النوع من الطعام صار حراماً على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالاً لهم فصح القول بالنسخ، وبطل قول اليهود معناه صدق الله في قوله أن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام، وإنما حرمت على بني إسرائيل بسبب تحريمها إسرائيل على نفسه وقيل صدق الله في ان سائر الأطعمة كانت محللة على بني إسرائيل وإنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم ففيه تعريض بكذب اليهود والمعنى ثبت أن الله تعالى صادق فيما أنزل وأخبر وأنتم كاذبون يا معشر اليهود {فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً} أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم من ملة إبراهيم وهي الإسلام وهو الدين الصحيح وهو الذي عليه محمد ومن آمن معه وإنما دعاهم إلى ملة إبراهيم ملة محمد صلى الله عليه وسلم {وما كان من المشركين} أي لم يدع مع الله إلهاً آخر ولا عبداً سواه. قوله عز وجل: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء وقبلتهم وأرض المحشر. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل فأنزل الله هذه الآية، وقيل لما ادعت اليهود والنصارى أنهم على ملة إبراهيم أكذبهم الله تعالى وأخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين وأمرهم باتباعه فقال تعالى في الآية المتقدمة: {فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً} وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيم الحج إلى الكعبة ذكر في هذه الاية فضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج وقوله: إن أول بيت وضع للناس الأول هو الفرد السابق المتقدم على ما سواه وقيل هو اسم للشيء الذي يوجد ابتداء سواء حصل عقبه شيء آخر، أو لم يحصل والمعنى أن أول بيت وضع للناس أي وضعه الله موضعاً للطاعات والعبادات وقبلة للصلاة وموضعاً للحج وللطواف تزداد فيه الخيرات وثواب الطاعات وكونه وضع للناس يعني يشترك فيه جميع الناس كما قال تعالى: {سواء العاكف فيه والباد} فإن قلت: كيف أضافه إلى نفسه مرة في قوله وطهر بيتي وأضافه للناس أخرى بقوله وضع للناس. قلت: أما إضافته إلى نفسه فعلى سبيل التشريف والتعظيم له كقوله ناقة الله، وأما إضافته إلى الناس فلأنه يشترك فيه جميع الناس لأنه موضع حجهم وقبلة صلاتهم للذي ببكة. قيل هي مكة نفسه والعرب تعاقب بين الباء والميم فيقولون ضربة لازب لازم وقيل بكة اسم لموضع البيت ومكة اسم للبلد وفي اشتقاق بكة وجهان: أحدهما: أنه من البك الذي هو عبارة عن الدفع يقال بكة يبكه إذا دفعه وزاحمه ولهذا قال سعيد بن جبير: سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن على الباقر ومجاهد وقتادة. الوجه الثاني سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها ولم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله تعالى وهذا قول عبدالله بن الزبير، وأما مكة فسميت بذلك لقلة مائها من قول العرب مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا مص كل ما فيه من اللبن، وقيل لأنها تمك الذنوب أي تزيلها وسميت مكة أم رحم لأن الرحمة تنزل بها، والحاطمة لأنها تحطم من استخلف بحرمتها، أو لأن الناس يحطم بعضهم بعضاً من الزحمة، وسميت أم القرى لأنها أصل كل بلدة ومن تحتها دحيت الأرض، واختلف العلماء في كون البيت أول بيت وضع للناس على قولين: أحدهما أنه أول في الوضع والبناء قال مجاهد: خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرضين وفي رواية عنه إن الله خلق السموات والأرض خلقه قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض من تحته. وهذا قول ابن عمر ومجاهد وقتادة والسدي. وقيل هو أول بيت بني على الأرض. وروي عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور وأمر الملائكة أن يطوفوا به ثم أمر الملائكة الذين في الأرض ان يبنوا بيتاً في الأرض على مثاله وقدره فبنوا هذا البيت واسمه الضراح، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام وكانوا يحجونه فلما حجه آدم قالت له الملائكة بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وقال ابن عباس: هو أول بيت بناه آدم في الأرض قيل إن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش وشكا الوحشة فأمره الله تعالى ببناء الكعبة فبناها وطاف بها وبقي ذلك البناء إلى زمان نوح عليه السلام فلما كان الطوفان رفع الله البيت وبقي موضع البيت أكمة بيضاء إلى أن بعث الله إبراهيم عليه السلام فأمره ببنائه. القول الثاني، أن المراد من الأولية كون هذا أول بيت وضع للناس مباركاً ويدل عليه سياق الآية وهو قوله تعالى: {للذي ببكة مباركاً} وروي أن رجلاً قام إلى علي بن أبي طالب فقال: ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع الناس مباركاً وهدى وفيه مقام إبراهيم ومن دخل كان آمناً وقال الحسن: هو أول مسجد عبد الله فيه، وقال مطرف: هو أول بيت وضع للعبادة. وقال الضحاك: هو أول بيت وضع فيه البركة، وأول بيت وضع للناس يجح إليه، وأول بيت جعل قبلة للناس. (ق) عن أبي ذر قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال المسجد الأقصى قلت: كم بينهما؟ قال أربعون عاماً ثم الأرض لك مسجداً فحيثما أدركت الصلاة فصلّ» زاد البخاري فإن الفضل فيه وقوله {مباركاً} يعني ذا بركة وأصل البركة النمو والزيادة، وقيل هو ثبوت الخير الإلهي فيه وقيل هو أول بيت خص بالبركة وزيادة الخير وقيل لأن الطاعات وسائر العبادات تتضاعف ويزداد ثوابها عنده (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» {وهدى للعالمين} يعني أنه قبلة للمؤمنين يهتدون به إلى جهة صلاتهم. وقيل لأن فيه دلائل على وجود الصانع المختار لما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره. وقيل هو هدي للعالمين إلى الجنة لأن من قصده بأن صلّى إليه أو حجه فقد أوجب الله تعالى له الجنة برحمته.
{فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} قوله تعالى: {فيه آيات بينات} أي فيه دلالات واضحات على حرمته ومزيد فضله، ثم اختلفوا في تفسير تلك الآيات فقيل هي قوله مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً، وقيل الآيات غير مذكورة وهي ما يدل على فضل هذا البيت منها أن الطير لا يطير فوق الكعبة في الهواء بل ينحرف عنها إذا وصل إليها يميناً وشمالاً، ومنها أن الوحوش لا تؤذي بعضها في الحرم حتى الكلاب لا تهيج الظباء ولا تصطادها، ومنها أن الطير إذا مرض منه شيء استشفى بالكعبة ومنها تعجيل العقوبة لمن انتهك حرمة البيت وما قصده جبار بسوء إلا أهلكه الله كما أهلك أصحاب الفيل وغيرهم، ومن الآيات التي فيه الحجر الأسود والملتزم والحطيم وزمزم ومشاعر الحج التي فيه كلها من الآيات، ومنها أن الآمر ببناء هذا البيت هو الجليل والمهندس له جبريل، والباني هو إبراهيم الخليل، والمساعد في بنيانه هو إسماعيل فهذه فضيلة عظيمة لهذا البيت. قوله تعالى: {مقام إبراهيم} يعني الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وكان فيه أثر قدمي إبراهيم فاندرس من كثرة المسح بالأيدي {ومن دخله كان آمناً} قيل لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: إن أول بيت وضع للناس موجودة في جميع الحرم، علم أن المراد بقوله ومن دخله كان آمناً جميع الحرم يدل عليه أيضاً دعوة إبراهيم حيث قال رب اجعل هذا البلد آمناً يعني من أن يهاج فيه وكانت العرب يقتل بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على بعض وكان من دخل الحرم آمن من القتل والغارة وهو المراد من حكم الآية على قول أكثر المفسرين قال الله تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم} وقيل في معنى الآية ومن دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمناً، وقيل هو خبر بمعنى الأمر تقديره ومن دخله فأمنوه وهو قول ابن عباس حتى ذهب أبو حنيفة إلى أن من وجب عليه القتل قصاصاً كان أو أحداً فالتجأ إلى الحرم فإنه لا يستوفى منه القصاص أو الحد في الحرم لكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشارى ولا يكلم ويضيق عليهم حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد خارج الحرم. وقال الشافعي: إذا وجب عليه القصاص خارج الحرم ثم لجأ استوفي منه في الحرم. وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم أو سرق أو زنى فإنه يستوفى منه الحد في الحرم عقوبة له، وقيل في معنى الآية ومن دخله معظماً له متقرباً بذلك إلى الله تعالى كان آمناً من العذاب يوم القيامة وقيل ومن دخله كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك. قوله عز وجل: {ولله على الناس حج البيت} أي ولله على الناس فرض حج البيت والحج أحد أركان الإسلام. (ق) عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان» فعد النبي صلى الله عليه وسلم الحج من أركان الإسلام الخمسة و{من استطاع إليه سبيلاً} يعني فرض الحج واجب على ما استطاع من أهل التكليف ووجد السبيل إلى حج البيت الحرام.
فصل في فضل البيت والحج والعمرة (ق) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول بيت وضع للناس مباركاً يصلي فيه الكعبة قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت كم بينهما؟ قال أربعون عاماً» عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن وإنما سودته خطايا بني آدم» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: «والله ليبعثنه الله يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على استلمه بحق» وله عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق المغرب» قال الترمذي: وهذا يروي عن ابن عمر موقوفاً (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى» (ق) عن أبي سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» (م) عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال له رجل: في كل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم» عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال الزاد والراحلة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وإبراهيم بن يزيد الجوزي المكي قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» وفي رواية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله عز وجل وفي لفظ من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» أخرجه الترمذي وقال: «غفر له ما تقدم نم ذنبه» وعن ابن مسعود أن رسول الله صلىلله عليه وسلم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس لحجة مبرورة ثواب إلاّ الجنة. وما من مؤمن يظل يومه محرماً إلا غابت الشمس بذنوبه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وله عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلىلله عليه وسلم: «ما من مسلم لبى إلا ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا» وقال الترمذي: هذا حديث غريب وله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» قال الترمذي: هذا حديث غريب.
فصل في أحكام تتعلق بالحج قال العلماء: الحج واجب على كل مسلم وهو أحد أركان الإسلام الخمسة. ولوجوب الحج خمس شرائط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة، ولا يجب على الكافر والمجنون، ولو حجا لم يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم لقول المجنون ولا يجب على الصبي والعبد ولو حج صبي يعقل، أو حج عبد صح حجهما تطوعا، ولا يسقط الفرض فإذا بلغ الصبي وعتق العبد واجتمع فيهما شرائط الحج وجب عليهما أن يحجا ثانياً، ولا يجب على غير المستطيع لقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} فلو تكلف غير المستطيع الحج وحج صح حجه وسقط عنه فرض فرض حجة الإسلام والاستطاعة نوعان: أحدهما: أن يكون مستطيعاً بنفسه، والآخر أن يكون مستطيعاً بغيره فأما المستطيع بنفسه فهو أن يكون قوياً قادراً على الذهاب ووجد الزاد والراحلة لما تقدم من حديث ابن عمر في الزاد والراحلة قال ابن المنذر، وحديث الزاد والراحلة لا يثبت لأنه ليس بمتصل وإنما المرفوع ما رواه إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم متروك الحديث قال يحيى بن معين: إبراهيم ليس بثقة قال ابن المنذر: واختلف العلماء في قوله تعالى: من استطاع إليه سبيلاً فقالت طائفة الاية على العموم إذ لا نعلم خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا إجماعاً لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضاً فعلى كل مستطيع الحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج على ظاهر قال: وروينا عن عكرمة أنه قال: الاستطاعة الصحة، وقال الضحاك: إذا كان شاباً صحيحاً فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه وقال مالك الاستطاعة على إطاقة الناس الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي وآخر يقدر على المشي على رجليه وقالت طائفة: الاستطاعة الزاد والراحلة كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل واحتجوا بحديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي: الاستطاعة وجهان: أحدهما أن يكون الرجل مستطيعاً ببدنه واجداً من ماله ما يبلغه الحج فتكون استطاعته تامة فعليه فرض الحج. والثاني: لا يقدر أن يثبت على الراحلة وهو قادر على من يطيعه إذا أمره ان يحج عنه، أو قادر على مال ويجد من يستأجره فيحج عنه فيكون هذا ممن لزمه فرض الحج. أما حكم الزاد والراحلة فهو أن يجد راحلة تصلح له ووجد من الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه فاضلاً عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم وعن دين إن كان عليه ووجد رفقة يخرجون في وقت جرت العادة بخروج أهل البلد في ذلك الوقت، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلاّ بقطع أكثر من مرحلة لا يلزمه الخروج معهم. ويشترط أن يكون الطريق آمناً فإن كان فيه خوف من عدو مسلم أو كافراً أو رصدي يطلب الخفارة لا يلزمه. ويشترط أن تكون منازل الماء مأهولة معمورة يجد فيها ما جرت العادة بوجوده من الماء والزاد فإن تفرق أهلها بجدب أو غارت مياهها فلا يلزمه الخروج ولو لم يجد الراحلة وهو قادر على المشي أو لم يجد الزاد وهو قادر على الاكتساب لا يلزمه الحج عند من جعل وجدان الزاد والراحلة شرطاً لوجوب الحج ويستحب له أن يفعل ذلك ويلزمه الحج عند مالك. وأما المستطيع بغيره فهو أن يكون الرجل عاجزاً بنفسه بأن كان زمناً أو به مرض لا يرجى برؤه وله مال يمكنه ان يستأجر من يحج عنه فيجب عليه أن يستأجر من يحج عنه وإن لم يكن له مال وبذل له ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه لزمه الحج إن كان يعتمد على صدقه لأن وجوب الحج متعلق بالاستطاعة. وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة وعند مالك لا يجب على من غضب ماله وحجه من أوجب الحج ببذله الطاعة. ما روي عن ابن عباس قال: «كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت: يا رسول الله إن فريضة الله عباده في الحجه أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال: نعم وذلك في حجة الوداع» أخرجاه في الصحيحين. قوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} يعني ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته وكفر به فإن الله غني عنه وعن حجة وعمله وعن جميع خلقه وقيل نزلت فيمن وجد ما يحج ثم مات ولم يحج فهو كفر به لما روي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك زاداً او راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً وذلك أن الله تعالى يقول ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً» أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه. وفي إسناده مقال وهلال بن عبدالله مجهول والحارث يضعف في الحديث وقيل هو الذي إن حج لم يره براً وإن قعد لم يره إثماً، وقيل نزلت في اليهود وغيرهم من أصحاب الملل حيث قالوا: إنا مسلمون فنزلت ولله على الناس حج البيت فلم يحجوا. وقالوا: الحج إلى مكة غير واجب وكفروا به فنزلت ومن كفر فإن الله غني عن العالمين. فعلى هذه الأقوال تكون هذه الآية متعلقة بما قبلها وقيل إنه كلام مستأنف ومعناه ومن كفر بالله واليوم الآخر فإن الله غني عن العالمين.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} قوله عز وجل: {قل يا أهل الكتاب} قيل الخطاب لعلماء أهل العلماء الذين علموا صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل الخطاب لجميع أهل الكتاب اليهود والنصارى الذين أنكروا نبوته {لم تكفرون بآيات الله} يعني الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق وصدق والمعنى لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل المراد بآيات الله القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم {والله شهيد على ما تعملون} أي والله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها {قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن}، يعني لم تصرفون عن دين الله من آمن وكان صدهم عن سبيل الله بالقاء الشبهة والشكوك وذلك بإنكارهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم {تبغونها عوجاً} يعني زيغاً وميلاً عن الحق والعوج بالكسر الزيغ والميل عن الاستواء في الدين والقول والعمل وكل ما لا يرى فأما الشيء الذي يرى كالحائط والقناة ونحو ذلك يقال فيه عوج بفتح العين والهاء في قوله تبغونها عائدة على السبيل والمعنى لم تطلبون الزيغ والميل في سبيل الله بإلقاء الشبه في قلوب الضعفاء {وأنتم شهداء} قال ابن عباس: يعني وأنتم شهداء أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته مكتوب في التوراة، وأن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام وقيل معناه وأنتم تشهدون المعجزات التي تظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته {وما الله بغافل عما تعملون} فيه وعيد وتهديد لهم وذلك أنهم كانوا يجتهدون ويحتالون بإلقاء الشبهة في قلوب الناس ليصدوهم عن سبيل الله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم فلذلك قال الله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون}. قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} الآية قال زيد بن أسلم: مر شاس بن قيس اليهودي وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين فمر بنفر من الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية وقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار فأمر شاباً من اليهود كان معه فقال له اعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وهما أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا فقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعاً وقالا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهر وفي الحرة فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضهم إلى بعض على دعواهم في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟ الله الله. فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا واعتنق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه سلم سامعين مطيعين قال جابر: فما رأيت يوماً أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} يعني شاساً اليهودي وأصحابه {يردوكم بعد إيمانكم كافرين} والكفر يوجب الهلاك في الدنيا بوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة والحرب وسفك الدماء وفي الآخرة النار.
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} قال تعالى: {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله} وكلمة كيف كلمة تعجب والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب وذلك على الله محال، فالمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله وهي القرآن حالاً بعد حال وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم يرشدكم إلى مصالحكم وذلك يمنع من وقوع الكفر فكان وقوع الكفر منهم بعيداً على هذا الوجه قال قتادة: في هذه الآية علمان بينان كتاب الله تعالى ونبي الله صلى الله عليه وسلم أما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله تعالى فقد أبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة. (م) عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ الناس وذكر، ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي» وقوله تعالى: {ومن يعتصم بالله} أي يمتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته وأصل العصمة الامتناع من الوقوع في آفة، وفيه حث لهم في الالتجاء إلى الله تعالى في دفع شر الكفار شر الكفار عنهم {فقد هدي إلى صراط مستقيم} أي إلى طريق واضح وهو طريق الحق المؤدي إلى الجنة. قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}. قال مقاتل بن حيان: كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية وقتال فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصلح بينهم فافتخر بعد ذلك منهم رجلان وهما ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج. فقال الأوسي: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ومنا حنظلة غسيل الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدبر ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضى الله بحمكه في بني قريظة وقال الحزرجي. منا أربعة أحكموا القرآن أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الحديث بينهما فغضبا وأنشد الأشعار وتفاخرا فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} قال ابن عباس: هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى. وقال مجاهد: هو أن تجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم وعن أنس قال: لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه، وقيل حق تقاته يعني واجب تقواه وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم. واختلف العلماء في هذا القدر من هذه الاية هل هو منسوخ أم لا على قولين أحدهما أنه منسوخ وذلك أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وقالوا: يا رسول الله ومن يقوى على هذا؟ فأنزل الله تعالى الناسخ وهو قوله تعالى في سورة التغابن: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد والسدي. والقول الثاني أنها محكمة غير منسوخة وهو رواية عن ابن عباس أيضاً وبه قال طاوس: وموجب هذا الاختلاف يرجع إلى معنى الآية فمن قال إنها منسوخة قال حق تقاته هو أن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه فهذا يعجز العبد عن الوفاء به فتحصيله ممتنع ومن بأنها محكمة قال: إن حق تقاته أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته فكان قوله تعالى اتقوا الله ما استطعتم مفسراً لحق تقاته لا ناسخاً ولا مخصصاً فمن اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقواه وقيل معنى حق تقاته كما يجب أن يتقي وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه، وقيل في معنى قول ابن عباس هو أن يطاع فلا يعصى هذا صحيح والذي يصدر من العبد على سبيل السهو والنسيان غير قادح فيه لأن التكليف في تلك الحال مرفوع عنه وكذلك قوله: وأن يشكر فلا يكفر فواجب على العبد حضور ما أنعم الله به عليه بالبال، وأما عنه السهو فلا يجب عليه. وكذلك قوله وأن يذكر فلا ينسى فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة لا عند السهو والنسيان. وقوله تعالى: {ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون} لفظ النهي واقع على الموت والمعنى واقع على الأمر بالإقامة على الإسلام، والمعنى كونوا على الإسلام فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك. وقيل هذا في الحقيقة نهي عن ترك الإسلام المعنى لا تتركوا الإسلام فإن الموت لا بد منه فمتى جاءكم صادفكم وأنتم على الإسلام لأنه لما كان يمكنكم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم على الإسلام صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، وقيل معناه ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون مخلصون مفوضون إلى الله أموركم تحسنون الظن به عزّ وجلّ. عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فقال: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون طعامه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} قوله عز وجل: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} أي تمسكوا بحبل الله والحبل هو السبب الذي يتوصل به إلى البغية وسمي الإيمان حبلاً لأنه سبب يتوصل به إلى زوال الخوف وقيل حبل الله هو السبب الذي به يتوصل إليه فعلى هذا اختلفوا في معنى الآية فقال ابن عباس: معناه تمسكوا بدين الله لأنه سبب يوصل إليه، وقيل: حبل الله هو القرآن لأنه أيضاً سبب يتوصل إليه. وفي أفراد مسلم من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة» الحديث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به» وذكره البغوي بغير سند وقال ابن مسعود: هو الجماعة قال عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة وقيل بحبل الله يعني بأمر الله وطاعته {ولا تفرقوا} يعني كما تفرقت اليهود والنصارى وقيل ولا تفرقوا يعني كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضاً ويقتل بعضكم بعضاً. قيل معناه لا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها ففيه النهي عن التفرق والاختلاف والأمر بالاتفاق والاجتماع لأن الحق لا يكون إلا واحداً وما عداه يكوه جهلاً وضلالاً وإذا كان كذلك وجب النهي عن الاختلاف في الدين وعن الفرقة لأن كل ذلك كان عادة اهل الجاهلية فنهوا عنه وروى البغوي بسنده عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثاً قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال». قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار كان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينما عداوة قتيل ثم تطاولت تلك العداوة والحروب بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وسبب ذلك أن سويد بن الصامت أخابني عمرو بن عوف وكان شريفاً يسميه قومه الكامل لجلده ونسبه قدم مكة حاجاً أو معتمراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث وأمر بالدعوة فتصدى له النبي حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذي معك؟ قال مجلد لقمان يعني حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرضها علي فعرضها عليه فقال: إن هذا الكلام حسن ومعي أفضل من هذا قرآن أنزل الله عز وجل على نوراً وهدى فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول قول حسن ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج يوم بعاث وإن قومه يقولون: قد قتل وهو مسلم. ثم قدم أبو الحيس أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم وجلس إليهم وقال لهم: هل لكم إلى خير مما جئتم له قالوا وما هو؟ قال أنا رسول الله قد بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يشركوا بالله شيئاً وأنزل على الكتاب ثم ذكر الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً أي قوم هذا والله خير مما جئتم له فأخذ أبو الحيس حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج فلم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على القبائل من العرب كما كان يصنع في كل موسم فلقي عند العقبة رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً وهم ستة نفر أسعد زرارة وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة وعقبة بن عامر بن بابي وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنتم قالوا نفر من الخزرج قال أمن موالي اليهود قالوا نعم قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام ان يهود كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وهم أهل أوثان وشرك وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيّاً الآن مبعوث قد أظل زمانه سنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه فأجابوه وصدقوه وأسلموا معه وقالوا إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً وهم أسعد بن زرارة وعوف ومعاذ ابنا عفراء ورافع بن مالك العجلاني وذكوان بن عبدالقيس وعبادة بن الصامت وزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر فهؤلاء خزرجيون وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة من الأوس فلقوه بالعقبة وهي القعبة الأولى فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين بهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف الآية فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئاً من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم قال وذلك قبل أن يفرض الحرب، قال: فلما انصرف القوم بعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة ثم إن أسعد بن زرارة خرج ومصعب فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما فإن أسعد بن خالتي ولولا ذلك لكفيتكه، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما بعد مشركان فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب: وأسعد وهما جالسان في الحائط فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه قال مصعب إن يجلس أكلمه فلما وقف عليهما متشتماً وقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة قال له مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وان كرهته كف عنك ما تكره؟ قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن قال والله لعرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم من إشراقه وتسهله ثم قال ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين قالا تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق ثم صلى ركعتين ثم قال: إن ورائي رجلاً إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر سعد إلى أسيد مقبلاً قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف أسيد على النادي قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما فقال: لا نفعل إلا ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد مغضباً للذي ذكره من بني حارثة فأخذ الحربة ثم قال والله ما أراك أغنيت شيئاً فانصرف إليهما فلما رآها مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتماً ثم قال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني تغشانا في دارنا بما نكره وقد كان قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد قومه إن يتبعك لم يخالفك أحد منهم، فقاله له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت امراً ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره فقال سعد: أنصفت ثم ركزا الحربة وجلس فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القرآن قالا فعرفنا والله الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم من إشراق وجهه وتسهله ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلّي ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ثم اخذ حربته وأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما رأوه مقبلاً قالوا نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة. قال: فإن كان رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فما أمسى في دار بني الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة ورجع أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير إلى منزل أسعد فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ومسلمات إلاّ ما كان من دار أمية بن زيد وخطمة ووائل ووافق ذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق قالوا ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار المسلمين سبعون رجلاً مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فوعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية قال كعب ابن مالك وكان قد شهد ذلك فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه كنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه وقلنا: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً ودعوناه إلى الإسلام فأسلم فأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة وكان نقيباً فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني النجار وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس ابن عبدالمطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوقف له فلما جسلنا كان أول من تكلم العباس بن عبدالمطلب فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها إن محمداً منا حيث حيث قد علمتم وقد منعناه عن قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم به من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزو ومنعة قال فقلنا: قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على ان تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبياً لنمعنك مما نمنع أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناهما كابراً فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً يعني عهوداً وإنا قاطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم قال: «بل الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا إلى مننكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم فأخرجوا اثني عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس» قال عاصم بن عمرو بن قتادة ان القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا فإنا نأخذ على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة قالوا ابسط يدل فبسط يده فبايعوه وأول من ضرب على يده البراء بن معرور ثم تتابع القوم قال فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعته قط يا أهل الحباحب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا عدو الله هذا أزب العقبة يعني شيطان العقبة اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك» ثم قال رسول الله «انفضوا إلى رحالكم فقال العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا» فقال رسول الله صلى الله: «لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا» فقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ماحي من العرب وأبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموا به وبعضنا ينظر إلى بعض وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدتان قال: فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوه يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ورمى بهما إليّ وقال والله لتنتعلنهما قال أبو جابر مه والله أحفظت الفتى فاردد إليه نعليه قال فقلت لا أردهما قال: والله يا أبا صالح لئن صدق الفأل لأسلبنه قال: ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدوا العقد فلما قدموها اظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشاً فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها» فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبدالأسد المخزومي ثم عامر بن ربيعة ثم عبدالله بن جحش ثم تتابعوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً إلى المدينة ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجمع الله عز وجل أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم بنبيه عليه الصلاة والسلام وأنزل الله عز وجل: {واذكروا} يعني يا معشر الأنصار {نعمة الله عليكم} يعني بالإسلام {إذ كنتم أعداء} يعني قبل الإسلام {فألف بين قلوبكم} يعني بالإسلام وبنبيّه عليه الصلاة والسلام فأصبحتم بنعمته إخواناً يعني فصرتم برحمته وبدينه الإسلام إخواناً في الدين والولاية بعد العداوة {وكنتم} يا معشر الأوس والخزرج {على شفا حفرة من النار} يعني على طرف حفرة مثل شفا البئر ليس بينكم وبين الوقوع في النار إلا أن تموتوا عل كفركم {فأنقذكم منها} أي فخلصكم بالإيمان من الوقوع في النار {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} اللام في قوله ولتكن لام الأمر أي لتكن منكم أمة دعاة الخير، وقيل إن كلمة من في قوله منكم للتبيين لا للتبعيض وذلك لأن الله عز وجل أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} فيجب على كل مكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه (م) عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» فعلى هذا يكون معنى الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ومن قال بهذا القول يقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به واحد سقط الفرض عن الباقين، وقيل إن من هنا للتبعيض وذلك لأن في الأمة من لا يقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعجز وضعف فحسن إدخال لفظ من في قوله ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير وقيل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يختص بالعلماء ولاة الأمر فعلى هذا يكون المعنى ليكن بعضكم آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. (خ) عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسلفها فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً» والخير المذكور في الآية هو كل شيء يرغب فيه من الأفعال الحسنة وقيل: هو هنا كناية عن الإسلام والمعنى لتكن أمة أي جماعة دعاة إلى الإسلام وإلى كل فعل حسن يستحسن في الشرع والعقل وقيل الدعوة إلى فعل الخير يندرج تحتها نوعان: أحدهما: الترغيب في فعل ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف. والثاني: الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الحسن أولاً وهو الخير ثم أتبعه بنوعيه مبالغة في البيان والمعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل والشرع حسنه والمنكر ضد ذلك وهو ما عرف بالعقل والشرع قبحه وقوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} تقدم تسيره.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)} قوله عز وجل: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} يعني ولا تكونوا يا معشر المؤمنين كالذين تفرقوا يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى في قول أكثر المفسرين واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه، وقيل تفرقوا واختلفوا بمعنى واحد وإنما ذكرهما للتأكيد وقيل تفرقوا بسبب العداوة واتباع الهوى واختلفوا في دين الله فصاروا فرقاً مختلفين قال الربيع في هذه الآية: هم أهل الكتاب نهى الله اهل الإسلام أن يتفرقوا أو يختلفوا كما تفرق واختلف أهل الكتاب. وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في الدين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمة وقال ابو أمامة: هم الحرورية: قال عبدالله بن شداد: وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية على درج جامع دمشق فذرفت عيناه ثم قال: كلاب أهل النار وكانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، شر قتيل تحت أديم السماء، وخير قتيل تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء قلت فما شأنك دمعت عيناك قال رحمة لهم كانوا من أهل الإسلام فكفروا بعد إيمانهم ثم أخذ بيدي وقال: إن ربي بأرضي منهم كثير وفي رواية ثم قرأ بعد قوله: {فكفروا بعد إيمانهم ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} إلى قوله: {أكفرتم بعد إيمانكم} ورواه الترمذي عن أبي غالب قال رأى أبو أمامة: رؤوساً منصوبة على درج دمشق فقال أبو أمامة كلاب أهل النار شر قتلي تحت أديم السماء خير قتلي من قتلوه ثم قرأ: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} إلى آخر الاية قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: «لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاث مرات أو أربع مرات حتى عد سبعاً ما حدثتكموه» وقال فيه هذا حسن وقوله تعالى: {من بعد ما جاءهم البينات} يعني الحجج الواضحات فعلموها ثم خالفوها وإنما قال جاءهم ولم يقل جاءتهم لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل في التقديم تشبيهاً بعلامة التثنية والجمع {وأولئك لهم عذاب عظيم} يعني لهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا لهم عذاب عظيم في الآخرة وفيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرق والخلاف عن أي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» أخرجه ابو داود. أراد بربقة الإسلام عقد الإسلام وأصله أن الربق حبل فيه عدة عرا يشد بها الغنم الواحدة من العري ربقة. وروى البغوي بسنده عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد» بحبوحة الجنة وسطها والفذ هو الواحد. قوله عز وجل: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} يعني اذكروا يوم تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكافرين، وقيل تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة، وقيل تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين وفي بياض الوجوه وسوادها قولان: أحدهما، إن البياض كناية عن الفرح والسرور السواد كناية عن الغم والحزن، وهذا مجاز مستعمل يقال لمن نال بغيته وظفر بمطلوبه ابيضّ وجهه يعني من السرور والفرح ولمن ناله مكروه اسود وجهه وأريد لونه يعني من الحزن والغم قال الله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} يعني من الحزن فعلى هذا بياض الوجوه إشراقها وسرورها واستبشارها بعملها، وذلك أن المؤمن إذا ورد القيامة على ما قدم من خير وعمل صالح استبشر بثواب الله ونعمه عليه فإذا كان كذلك وسم وجهه ببياض اللون وإشراقه واستنارته وابيضت صحيفته واشرقت وسعى النور بين يديه وعن يمينه وشماله. وأما الكافر والظالم إذا ورد القيامة على ما قدم من قبيح عمل وسيئات حزن واغتم لعلمه بعذاب الله فإذا كان كذلك وسم وجهه بسواد اللون وكمودته واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب نعوذ بفضل الله وسعة رحمته من الظلمات يوم القيامة والقول الثاني بياض الوجوه وسوادها حقيقة تحصل في الوجه فيبيض وجه المؤمن ويكسى نوراً ويسود وجه الكافر ويكسى ظلمة لأن لفظ البياض والسواد حقيقة فيهما والحكمة في بياض الوجوه وسوادها أن أهل الموقف إذا رأوا بياض وجه المؤمن عرفوا أنه من أهل السعادة وإذا رأوا سواد وجه الكافر عرفوا أنه من أهل الشقاوة {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي فيقال لهم أكفرتم والهمزة للتوبيخ والتقريع. فإن قلت كيف قال أكفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين فمن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم. قلت اختلف العلماء في ذلك فروى عن أبيّ بن كعب أنه قال: أراد به الإيمان يوم أخذ الميثاق حين قال لهم ألست بربكم؟ قالوا بلى فآمن الكل، فكل من كفر في الدنيا فقد كفر بعد الإيمان، وقال الحسن: هم المنافقون وذلك أنهم تكلموا بالإيمان بألسنتهم وأنكروه بقلوبهم. وقال عكرمة: هم أهل الكتاب وذلك أنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فلما بعث أنكروه وكفروا به وقيل هم الذين ارتدوا زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهم أهل الردة (ق) عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأنا لهم اختلجوا دوني فأقول أي رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (ق) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليردنَّ عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي أصحابي فيقال لي لا تدري ما أحدثوا» زاد في رواية فأقول: «سحقاً لمن بدل بعدي» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرد على يوم القيامة رهط من أصحابي أو قال من أمتي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول: أنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدباهم القهقهرى» وقيل هم الخوارج الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب وقتلهم وهم الحرورية. (م) عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي لما ساروا إلى الخوارج فقال عليّ: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة» (ق) بشير بن عمرو. قال: قلت لسهل بن حنيف هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً قال: سمعته يقول وأهوى بيده إلى العراق «يخرج منهم قوم يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية» وقيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة كالقدرية ونحوهم ومن قال بهذا القول يقول كفرهم بعد إيمانهم هو خروجهم من الجماعة ومفارقتهم في الاعتقاد. (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح لارجل مؤمناً ويسمى مؤمناً، ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا» وقال الحارث الأعور: سمعت علب بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: على المنبر إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به الجنة وإن الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به النار ثم قرأ {يوم تبيض وجوه} الآية ثم نادى هم الذين كفروا بعد الإيمان ورب الكعبة.
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)} قوله تعالى: {وأما الذين ابيضت وجوههم} يعني المؤمنين المطيعين لله عز وجل {ففي رحمة الله} يعني ففي جنة الله وإنما سميت الجنة رحمة لأنها دار رحمة وفيه إشارة إلى أن العبد وإن عمل بالطاعات لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى {هم فيها خالدون} قيل: إنما كرر كلمة في لأن في كل واحدة منهن معنى غير الأخرى المعنى أنهم في رحمة الله وأنهم في الرحمة خالدون {تلك آيات الله} يعني القرآن وقيل هذه الايات التي تقدمت {نتلوها عليك بالحق} أي بالمعنى الحق لأن المتلو حق {وما الله يريد ظلماً للعالمين} يعني لا يعاقب أحداً بغير جرم واستحقاق للعقوبة وأنما ذكر الظلم هنا لأنه قد تقدم ذكر العقوبة في قوله فأما الذين اسودّت وجوههم إلى قوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أخبر أنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب أفعالهم المنكرة وأنه لا يظلم أحداً من خلقه.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} {ولله ما في السموات وما في الأرض} لما ذكر الله أنه لا يريد ظلماً للعالمين لأنه لا حاجة به إلى الظلم، وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد مالاً أو عزاً أو سلطاناً أو يتم نقصاً فيه بما يظلم به غيره ولما كان الله عز وجل مستغنياً عن ذلك، وله صفة الكمال أخبر أن له ما في السموات وما في الأرض وأن جميع ما فيها ملكه وأهلها عبيدة، وإذا كان كذلك يستحيل في حقه سبحانه وتعالى أن يظلم أحداً من خلقه لأنهم عبيده، وفي قبضته ثم قال: {وإلى الله ترجع الأمور} يعني وإليه مصير جميع الخلائق المؤمن والكافر والطائع والعاصي فيجازي الكل على قدر استحقاقهم ولا يظلم أحداً منهم. قوله عز وجل: {كنتم خير أمة} سبب نزول هذه الآية أن مالك بن الصيف ووهب بن يهودا اليهوديين قالا لعبدالله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة: نحن أفضل منكم وديننا خير من دينكم الذي تدعوننا إليه فأنزل الله هذه الآية واختلف في لفظة كان فقيل هي بمعنى الحدوث والوقوع والمعنى حدثتكم ووجدتم وخلقتم خير أمة وقيل كان هنا ناقصة وهي عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض ولا تدل على انقطاع طارئ بدليل قوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} فعلى هذا التقدير يكون المعنى: كنتم في علم الله خير امة وقيل كنتم مذكورين في الأمم الماضية بأنكم خير أمة، وقيل كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة وقيل معناه كنتم منذ آمنتم خير أمة وقيل قوله خير أمة تابع لقوله: {فأما الذين ابيضّت وجوههم} والتقدير أنه يقال لهم عند دخول الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا استحققتم ما أنتم فيه من بياض الوجوه والنعم المقيم، وقيل كنتم بمعنى انتم وقيل يحتمل أن يكون كان بمعنى صار فمعنى قوله كنتم أي صرتم خير أمة. فأما المخاطبون بهذا من هم ففيه خلاف قال ابن عباس في قوله كنتم خير أمة هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى ابن جرير عن عمر بن الخطاب قال لو شاء الله تعالى لقال: أنتم فكنا كلنا ولكن في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل ما صنعتم كانوا خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقال الضحاك: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني به كانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله عز وجل المسلمين باتباعهم وطاعتهم. (ق) عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن بعدهم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن» زاد في رواية: «ويحلفون ولا يستحلفون» (ق) عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» قوله: «خير الناس قرني» يعني أصحابي القرن أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه الزمان الزمان الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل القرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة. (ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحداً أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» النصيف النصف. وقال ابن عباس في رواية عطاء في قوله: كنتم خير أمة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال الزّجاج قوله كنتم خير أمة الخطاب فيه مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في كل أمة ونظيره قوله: «كتب عليكم الصيام، كتب عليكم القصاص» فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ، ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا عن «بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال أنتم الأمة تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وأصل الأمة الجماعة المجتمعة على الشيء. وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الجماعة الموصوفين بالإيمان بالله عز وجل وبمحمد صلى الله عليه وسلم (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا ن أبى. قالوا: ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يجمع أمتي او قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار» أخرجه الترمذي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل» أخرجه أبو داود عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي كمثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله» أخرجه الترمذي وله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم» وله عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «باب أمتي الذي يدخلون من الجنة عرضه مسيرة الراكب المسرع المجد ثلاثاً ثم إنهم يتضاغطون عليه حتى تكاد مناكبهم تزول» قال الترمذي سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه وقال لخالد بن أبي بكر مناكير عن سالم بن عبدالله زاد غيره في الحديث وهم شركاء الناس في سائر الأبواب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أمتي من يشفع في الفئام من الناس ومنهم من يشفع في القبيلة ومنهم من يشفع للعصبة من يشفع للواحد» أخرجه الترمذي (خ) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً أو سبعمائة ألف سماطين متماسكين آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر» عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب ومع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثيات ربي» أخرجه الترمذي. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» وقوله تعالى: {أخرجت للناس} معناه كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار ومعنى أخرجت أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وقيل معناه كنتم للناس خير أمة أخرجت (خ) عن أبي هريرة قال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، وقيل: أخرجت صلة والتقدير كنتم خير أمة للناس وقيل معناه كنتم للناس خير أمة للناس وقيل معناه ما أخرج للناس أمة خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} هذا كلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية وكونهم خير أمة كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم. والمعروف هو التوحيد، والمنكر هو الشرك، المعنى تأمرون الناس بقول لا إله إلا الله وتنهونهم عن الشرك {وتؤمنون بالله} أي وتصدقون بالله وتخلصون له التوحيد والعبادة. فإن قلت لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع ان الإيمان يلزم أن يكون مقدماً على كل الطاعات والعبادات؟. قلت الإيمان بالله أمر يشترك فيه جميع الأمم المؤمنة وإنما فضلت هذه الأمة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سائر الأمم، وإذا كان كذلك كان المؤثر في هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يضر شيء من الطاعات مقبولاً فثبت أن الموجب لهذه الخيرية لهذه الأمة هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، فلهذا السبب حسن تقديم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان وقوله تعالى: {ولو آمن أهل الكتاب} يعني ولو آمن اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالدين الذي جاء به {لكان خيراً لهم} يعني مما هم عليه من اليهودية والنصرانية وإنما حملهم على ذلك حب الرياسة واستتباع العوام ولو أنهم آمنوا لحصلت لهم الرياسة في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة وهو دخول الجنة {منهم} يعني من أهل الكتاب {المؤمنون} يعني عبدالله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من اليهود والنجاشي وأصحابه الذين أسلموا من النصارى {وأكثرهم الفاسقون} أي المتمردون في الكفر، وقيل إن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وهؤلاء مع كفرهم فاسقون.
{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} قوله عز وجل: {لن يضروكم إلا أذى} سبب نزول هذه الآية أن رؤساء عمدوا إلى من آمن منهم مثل عبدالله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم فأنزل الله تعالى {لن يضروكم إلا أذى} يعني لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلا أذى يعني باللسان من طعنهم في دينكم أو تهديد أو إلقاء شبهة وتشكيك في القلوب وكل ذلك يوجب الأذى والغم {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار} يعني منهزمين مخذولين {ثم لا ينصرون} يعني لا يكون لهم النصر عليكم بل تنصرون عليهم وفيه تثبيت لمن أسلم من أهل الكتاب لأنهم كانوا يؤذونهم بالقول ويهددونهم ويوبخونهم فأعلمهم الله تعالى أنهم لا يقدرون أن يجاوزوا الأذى بالقول إلى غيره من الضرر ثم وعدهم الغلبة والانتقام منهم وأن عاقبتهم الخذلان والذل فقال تعالى: {ضربت عليهم الذلة} يعني جعلت الذلة ملصقة بهم كالشيء يضرب على الشيء فيلتصق به، والمراد بالذلة قتلهم وسبيهم وغنيمة أموالهم وقيل الذلة ضرب الجزية عليهم لأنهم ذلة وصغار وقيل ذلتهم أنك لا ترى في اليهود ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً بل مستضعفون في جميع البلاد {أينما ثقفوا} أي حيثما وجدوا وصودفوا {إلا بحبل من الله} يعني إلا بعهد من الله وهو أن يسلموا فتزول عنهم الذلة {وحبل من الناس} يعني المؤمنين ببذل الجزية والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وهو ذمة الله وعهده وذمة المسلمين وعهدهم لا عزلهم إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من بذل الجزية. وإنما سمي العهد حبلاً لأنه سبب يوصل إلي الأمن وزال الخوف {وباؤو بغضب من الله} يعني رجعوا بغضب من الله واستوجبوه وقيل أصله من البواء وهو المكان والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه {وضربت عليهم المسكنة} يعني كما يضرب البيت على أهله فهم ساكنون في المسكنة غير خارجين منها قال الحسن المسكنة هي الجزية، وذلك لأن الله تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء، وذلك يدل على انها باقية عليهم والباقي عليهم هو الجزية فدل على أن المسكنة هي الجزية، وقيل المراد بالمسكنة هو أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنياً موسراً {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب {بأنهم} أي بسبب أنهم {كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} أي ذلك الذي نزل بهم بسبب عصيانهم لله عز وجل وتعديهم لحدوده فنزل بهم ما نزل.
|